تاريخ الخطوط العربية: بين ما نُسخ به القرآن وما تفنن فيه أهل إيران

قد تلاحظ عزيزي القارئ في بعض النصوص العربية القديمة وفي الآثار الإسلامية، أشكال مختلفة من الكتابة، إن هذه الأشكال ما نطلق عليها “خطوط اللغة”، وهي بالمناسبة خطوط تتقاطع بين ثلاثة لغات لها نفس الأبجدية وهي؛ اللغة العربية، واللغة التركية في أبجديتها القديمة قبل استخدام الحروف اللاتينية، واللغة الفارسية.

وقد تميزت أبجدية هذه اللغات بتشابك حروفها إذا ما اجتمعت معًا لتُشكل كلمة، فكانت من الليونة ما يسمح بتطويعها وتشكيلها وزخرفتها لتبدع خطوطًا عديدة.

بعض هذه الخطوط جاء سهلًا إذا كُتب، وواضحًا إذا قُرئ، وبسيطًا في رسمه كالنسخ والرقعة، وبعضها جاء جادًا ورسميًا كالديواني، المستخدم في الفرمانات الملكية، أما البعض الآخر، فجاء مزخرفًا ومزدانًا؛ كالثلث والفارسي والكوفي.

بعض الخطوط العربية عاش قرونًا بعد أن تأقلم مع حاجات الزمان والمكان، وبعضها عفى عليه الزمن فصار أثرًا لا نراه إلا في المتاحف، وفي هذا المقال، نناقش بعض من أهم الخطوط العربية وتاريخ نشأتها وتعايشها على مر الزمان.

خط النسخ: ما نسخ به القرآن الكريم

مخطوطة منسوبة إلى محمد بن عبد الله الكنوى، مكتوبة بخط النسخ، ترجع إلى أواخر القرن الثالث عشر، عن: youm7

سمي بالنسخ لإنه الأكثر تداولًا في الكتابة، ولإنه استخدم في المراسلات والصحف والمعاملات التجارية ونسخ الكتب، ويعتبر الوزير “أبو علي محمد بن علي بن الحسين بن مقلة الشيرازي” واضع أسس هذا الخط، وهو واحد من أشهر خطاطين العصر العباسي، وكان شاعرًا وكاتبًا.

تميز خط النسخ بوضوح الحروف وحجمها الكبير، بما يضمن القراءة الصحيحة، ولذلك بدأ استخدامه في كتابة المصاحف منذ العصور الأولى للإسلام.

وكثير من آثار العالم الإسلامي القديم وجدت مكتوبة بهذا الخط، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر ما نجده اليوم في المتحف البريطاني؛ مصحف كتب بالنسخ، وصفحة من مخطوطة تاريخ الخلفاء الوحيدة في العالم تعود للقرن الرابع أو الخامس الهجري.

وكذلك صفحتان من تفسير القرآن الكريم للإمام فخر وقد وضع تاريخ أول صفحاته في سنة أربعمائة وتسع وهو من مخلفات مؤسس جامع المصرفي في بغداد.

ويستخدم خط النسخ حتى اليوم في المراسلات والكتابات الرسمية، فهو الخط الذي تقرأه الآن يا عزيزي القارئ في هذا المقال، وهو ما تجده في الكتب والجرائد وعلى شاشات الكمبيوتر.

خط الثلث: بدعة من بدع النسخ إذا زُخرف

في كتابها “الخط العربى: فن وعلم وإبداع” تؤكد آلاء محمد الحيارى، أن مخترع خط الثلث هو الوزير العباسي “أبو علي محمد بن على بن الحسين بن مقلة الشيرازى”، ولا عجب في ذلك فهو نفسه مخترع خط النسخ، وما الثلث يا عزيزي القارئ سوى بدعة من بدع النسخ ولكن أكثر زخرفًا وتكلفًا.

من آثار العصر المملوكي في مصر، مكتوبة بخط الثلث، عن: pinimg

ولكن تذكر الحياري في كتابها عن ابن مقلة، أنه خطاط إيراني وأول من وضع أسس مكتوبة للخط العربي، وقد تولى الوزارة في عهد الخليفة المقتدر بالله سنة 316 هجرية.

ورغم أن الكتاب يذكر أنه لم يصل لنا أي من أعمال ابن مقلة الأصلية، إلا أنه يعود ويوضح أن الدليل التاريخي يؤكد أحقية الوزير الإيراني ببراءة إختراع خطي النسخ والثلث، وريادة تدوين قواعد الخط العربي.

وعلى حسب الكتاب، سمي الثلث بهذا الاسم، لأنه يكتب بقلم يُقط محرفًا بسمك ثلث قطر القلم، لأنه يحتاج إلى كتابة بحرف القلم وسمكه، واعتبره الكتاب من أصعب الخطوط العربية من حيث القواعد والموازيين، وخصصه بالمرونة ومتانة التركيب وبراعة التأليف.

خط الرقعة: الخط الذي كُتب على الرقاع

أمثلة من خط الرقعة، عن: wikimedia

سمي بذلك نسبة للرقاع، وهو جلد الغزال، ويعتبر الرقعة خط حديث، وقد نشأ في ظل الدولة العثمانية على يد الخطاط ممتاز بيك، ويمتاز بسهولة قواعده وسلاسته في الكتابة ما يجعله خط سريع يستخدم في التدوينات اليومية.

وعاش ممتاز بك في عهد السلطان سليمان القانوني، الذي وصلت في عهده الإمبراطورية العثمانية لأقصى اتساع لها في القرن السادس عشر الميلادي.

امتاز خط الرقعة بالتبسيط والتخلي عن الزخارف والتكلفة في رسم الحروف، حتى أن بعض الخطاطين قالوا أن سر تعلّم وإتقان هذا الخط هو إتقانُ أحرفٍ أربعة، هي النون والعين والباء والألف.

وكما تلاحظ يا عزيزي القارئ في الأمثلة السابقة من خط الرقعة أنه تميز في كتابة حرف السين ورسم التنقيط وشكل حرف الحاء وصورة الهمزات الوسيطة، الذي يختلف عن أي خطٍ عربي آخر في سلاسته وليونته.

الخط الكوفي: التكوير والبسط

لوحة بخط الخطاط عبد المحسن نصار، من الخط الكوفي القرآني، عن: hrofiat

إن فنون الخط العربي واحدة من فنون نشأت في سياق العالم الإسلامي بمعزل عن كل الفنون التي سبقت الدعوة المحمدية. وظهر الخط العربي متأثرًا بأسلوب الكتابة القديم في العراق بعد أن انتقلت عاصمة الدولة الإسلامية إلى الكوفة.

وقد ذكر أبو العباس القلقشندي في كتابه “صبح الأعشى في صناعة الإنشا”: “إن الخط الكوفي يرجع إلى أصلين هما التكوير والبسط، أي اللين والمزوي، وعلى ترتيب هذين الأصلين الأقلام الموجودة الآن”.

ما يعني أنه خط يعتمد على رسم الحروف بشكل دائري (تكوير)، وفي خطوط منبسطة واضحة، وهو من أكثر الخطوط زخرفية في اللغة العربية، وتفنن العرب في تزينه حتى أصبح خط الفن والعمارة في عصره.

وفي الآثار الإسلامية، نستطيع بيان تطور الخط الكوفي منذ السنوات الأولى من سنة 19 هجرية وما بعدها، مرورًا بالعصر الفاطمي والأيوبي والمملوكي في مصر.

من آثار العصر الأيوبي في مصر نستطيع التقاط الخط الكوفي في المدرسة الناصرية والكاملية والصالحية وضريح الإمام الشافعي، ومن العصر المملوكي مسجد الظاهر بيبرس ومسجد السلطان الغوري ومسجد السلطان حسن ومسجد الأقمر ومدرسة السلطان برقوق، والكثير من الأسبلة.

الخط الفارسي: جسر حضاري يربط الدولة العربية والإسلامية

حرد متن علي شكل مستطيل من
مخطوط صفات العاشقين المحفوظ بدار الكتب
المصرية

سمي بالفارسي بالنسبة إلى مصدره في بلاد فارس، وانتشر فيما بعد في بلاد شمال أفريقيا، واعتبر خطًا أساسيًا في بلاد المغرب، وقد تخصص بحروفه المستديرة بشكل كبير.

ظهر الخط الفارسي في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري كنتيجة إبداع نخبه من فنانين بلاد فارس، وعلى رأسهم الخطاط العبقري مير علي التبريزي.

دمج هؤلاء الفنانين والخطاطين الفارسيين بين خطين عربيين، هما النسخ والتعليق، ولذلك أصبح يعرف هذا الخط الجديد في اللغة الفارسية بخط “النستعليق”.

وصف رئيس رابطة الخطاطين الإيرانيين، عبد الله ملك بور، الخط الفارسي بإنه القاسم الثقافى المشترك لشعوب العالم الإسلامي، واعتبر النستعليق ” الجسر الحضاري المتين ” الذي يربط إيران بالدول العربية والإسلامية.

حرد متن علي شكل مستطيل من
مخطوط الشاهنامة المحفوظ بدار الكتب المصرية

ويمتاز خط البلاد الفارسية بتنسيق وانحناء ومد ورشاقة، تمنحه خصيصة ابداعية في تشكيل حروفه التي تمتاز بالليونة حتى تبدو وكأنها تنحدر في اتجاه واحد.

الخط الديواني: رقعة الباب العالي

واضعه هو ابراهيم منيف، وسمّي بالديواني نسبة لديوان السلطان العثماني، حيث كتبت به الفرامانات السلطانية، حتى أنه سمي برقعة الباب العالي، واختص بالطواعية والحيوية، وكتابته على سطر واحد.

أصبح الخط الديواني رسميًا في الإمبراطورية العثمانية بعد غزو السلطان محمد الفاتح العثماني مدينة القسطنطينية في سنة 857 هجرية.

خط ديواني محمد الحداد رحمه الله، عن: baytalkhatt

وقد وضع قواعده في البلاد العربية الخطاط مصطفى غزلان، فامتاز بجمال وروعة حروفه المستديرة والمتداخلة، ما جعله سهل القراءة نظرًا لرشاقته الواضحة، ونجد هنا كراسة مصطفى غزلان بك في الخط الديواني.

ونجد مقالة خلابة عن الخطاط مصطفى غزلان، خطاط الملك فؤاد، وقد كتبت في سنة 1934 توضح دوره في نقل هذا الخط السلطاني إلى العالم العربي، ومنحه ذوقًا مصريًا خالصًا، بعد أن كان خطًا مقصورًا على نخبة قليلة من فناني الاستانة.

آخر كلمة: ماتفوتوش قراءة: رحلة فك شفرة اللغة المصرية القديمة: من شغف العرب لهوس الغرب

تعليقات
Loading...