رحلة فك شفرة اللغة المصرية القديمة: من شغف العرب لهوس الغرب

من بدايات القرن التاسع عشر أصاب العالم نوع من الشغف الجنوني بالمباني والآثار المنثورة على ضفاف النيل، وتم شحن آلاف الأطنان من القطع الأثرية المصرية لدول غربية علشان تُشبع رغبة العالم الهستيرية في امتلاك القطع المبهرة دي.

الحملة الفرنسية في مصر، عن: maghrebhistory

تسابق العالم المحموم على امتلاك أفخم وأجمل القطع المصرية القديمة كان مايزال يفتقد لعنصر مهم جدًا، وده لإن القطع الأثرية دي كانت مُغطاة برموز غريبة ماحدش كان عارف معناها إيه، وده اللي زاد من شغف العالم ورغبته في فهم النصوص المكتوبة على آثار مصر القديمة.

ماكانش الرجل الغربي هو أول واحد حاول فك شفرة الرموز المصرية القديمة، فالعالم المسلم، أحمد بن أبي بكر بن وحشية، اللي عاش في العراق خلال القرن التاسع والعاشر الميلادي، حاول فك الشيفرة دي في كتابه “شوق المستهام فى معرفة رموز الأقلام”، واللي وضح فيه إن الرموز دي بتمثل حروف مش مجرد صور بتحكي أحداث، زيّ ما كان منتشر في الكتابات الأوروبية الكلاسيكية.

أما العالم العربي التاني، ذو النون المصري، عاش في صعيد مصر وفي بلدة أخميم خلال القرن التاسع الميلادي، وكتب كتابه “السمات الكاهنية” واللي رسم فيه جداول بتحاول تقارن الرموز المصرية القديمة بالصوتيات العربية. وكتب المستشرق النمساوي، جوزيف هامر، إن علماء الحملة الفرنسية كانوا بيدوروا على مخطوطات عربية علشان تساعدهم في الكشف عن شيفرة اللغة المصرية القديمة.

حجر واحد واتنين علماء وتلات لغات

بيقول المؤرخ المصري، محمد محيي: “المصريين القدماء كانوا بيتكلموا لغة اسمها “مدو نتر” ومعناها كلام الإله، واللغة دي اتكتبت بكذا خط زي العربي اللي بيتكتب بخط الرقعة والنسخ والكوفي”.

بيوضح محيي: “خطوط اللغة المصرية القديمة كانت الهيروغليفية، والديموطيقية، والهيراطيقية، وبعدين في العصور المتأخرة ظهر الخط القبطي بعد دخول المصريين في المسيحية خلال حكم الاغريق لمصر”.

وبيضيف محيي: “مارس المصريين الديانة المسيحية بلغتهم الأصلية ومع محاولة الاغريق فرض لغتهم بالعافية اتحول المصريين لكتابة لغة مدو نتر بحروف اغريقية وضافوا لها 7 أصوات جديدة من الخط الديموطيقي، وبكده اتولد خط جديد هو القبطي”، وبيوضح”وبكده القبطية هي المرحلة الأخيرة من اللغة المصرية القديمة، وبتتنطق بنفس الطريقة تقريبًا”.

سنة 1799 كان في سرية من الحملة الفرنسية في مصر بقيادة ظابط اسمه “بيير فرنسوا بوشار” بتعمل مهمة في بلدة رشيد في دلتا النيل، اكتشف بيير قطعة أثرية هيكون ليها أثر عظيم في فهم الحضارة المصرية القديمة؛ حجر رشيد.

حجر رشيد كان عليه نصوص مكتوبة بتلات طرق مختلفة هم: الهيروغليفية، ودي طريقة مبهرجة لكتابة اللغة المصرية القديمة، والديموطيقية ودي الخط اليدوي البسيط في كتابة المصرية القديمة، واليونانية الكلاسيكية اللي كانت مفهومة في الوقت ده. توقع العلماء إن النصوص التلاتة اللي على حجر رشيد هما نص واحد مكتوب بتلات لغات، وده اللي خلاهم اعتبروا الحجر مفتاح حل اللغز، واتسابق الدارسين من كل أنحاء العالم علشان يفكوا شفرته.

توماس يونج، عن: blogspot

دخل السباق اتنين من أهم علماء العالم في الوقت ده؛ الباحث والعالم الإنجليزي متعدد الثقافات “توماس يونج”، وخبير اللغات الفرنسي العبقري “جان فرانسوا شامبليون” اللي أتعلم لغة المصريين المسيحيين “القبطية” في سن الـ 16 سنة على إيد الكاهن المصري “يوحنا شفتشي”، والكاهن ده كان بيقيم الصلوات في كنيسة سان روشا للأقباط المهاجرين، وكان عارف اللغة القبطية والعربية.

كانت مهمة فك شفرة اللغة المصرية القديمة صعبة وشبه مستحيلة، وزادت صعوبة المهمة بسبب العداء والكراهية الشديدة بين شامبليون ويونج خلال أبحاثهم على حجر رشيد، وكان سبب العداء هو اختلافهم على طريقة فك شفرة اللغة المصرية القديمة وبعض الخصائص الأكاديمية للبحث.

إنجاز عظيم وغلطة صغيرة وقفت في طريق توماس يونج

دراسة حجر رشيد، عن: historicaleve

فهم النص المكتوب باللغة اليونانية القديمة كان بيشكل بداية لفهم المصرية القديمة من خلال مقارنته بالنص الهيروغليفي والديموطيقي واستنباط قواعد ومعاني رموز اللغة المصرية القديمة.

لكن الموضوع ماكانش ببساطة مقارنة الحروف اليونانية الكلاسيكية بنظيراتها من الحروف المصرية القديمة واستنباط المعاني. واجه توماس يونج وجان شامبليون أزمة كبيرة في فهم الطريقة اللي بيتم بها كتابة المصرية القديمة، فهل الرمز المصري القديم بيدل على حركة صوتية أو حرف واحد ولا بيدل على كلمة كاملة في اللغة؟ يعني هل رسمة طائر اللقلق بتدل على الطائر ذات نفسه ولا الرمز مجرد جزء من صوتيات كلمة مركبة من عدة رموز؟

اقترح يونج إن الرموز المصرية القديمة بتشكل نظام صوتي زيّ النظم الصوتية بتاعت الحروف الأبجدية في اللغات الحديثة، واعتمد على المقارنة بين كتابة الأسماء في المصرية القديمة واليونانية الكلاسيكية، ومن خلال المقارنة دي قدر يفهم المقابل الصوتي.

لكن إنك تلاقي كلمة عشوائية في نص مكتوب بالهيروغليفية وتكتشف المقابل لها في النص اليوناني الكلاسيكي من غير ما تعرف الطريقة اللي بتتكتب بها اللغة، شيء شبه مستحيل، لإنك مش عارف اللغة بتتكتب من اليمين للشمال ولا العكس، بتتكتب من فوق لتحت ولا العكس.

يونج كان عنده دليل صغير وهو إن الخرطوش (اللي سماه كده جنود الحملة الفرنسية لإنه يشبه خرطوش البندقية) كان بيتم استخدامه علشان يحدد ويميز أسماء الملوك، ومن هنا قدر يونج يكشف عن اسم في اليونانية ويحدد المقابل له في خرطوشة في النص الهيروغليفي، وكان الاسم ده هو “بطليموس” الحاكم البطلمي لمصر.

قدر يونج يكشف عن الصوتيات الخاصة بالرموز الهيروغليفية في اسم بطليموس بشكل صحيح إلى حد كبير، ولكنه تجاهل الرمز التاني في الهيروغليفية من اسم بطليموس، واللي اعتقد إن مالوش مقابل صوتي، ودي الغلطة اللي خلت بحثه وقف عند النقطة دي.

شامبليون وكشف السر العظيم من خلال اللغة القبطية

من خلال معرفته باللغة القبطية قدر شامبليون يحقق الإنجاز الأعظم في تاريخ علم المصريات. اشتغل عالم اللغويات الفرنسي على خرطوشة بطليموس وخرطوشة تانية حديثة الاكتشاف، كان يُعتقد إنها لكليوباترا، وقارن ما بين الرموز والصوتيات المشتركة ما بينهم، ومن خلال البحث ده قدر يكشف المقابل الصوتي لعشر رموز هيروغليفية.

خرطوشة كليوباترا في مقابل خرطوشة الاسكندر، عن: gstatic

بس علشان يتأكد إن اكتشافه صح، درس شامبليون خرطوشة تانية كانت مكررة بشكل كبير في معبد أبو سمبل في أسوان، وهي خرطوشة الملك “رعمسيس”، ولما نطق اسمه لأول مرة من تلات ألاف سنة جري على مكتب أخوه جاك جوزيف شامبليون، عالم المصريات، وقاله: “Je tien l’affaire” أو “عرفتها”، وراح أُغمى عليه.

بعد ما فاق شامبليون من صدمته كتب خطاب مهم جدًا في علم المصريات، والمعروف النهارده باسم “رسالة إلى السيد دايسير”، وهي رسالة علمية في شكل خطاب بعتها سنة 1822 لـ “بون جوزيف دايسير”، سكرتير الأكاديمية الفرنسية للنقوش.

 الرسالة كان فيها جداول لرموز هيروغليفية والمقابل الصوتي لها في اليونانية الكلاسيكية والديموطيقية، وتُعتبر الرسالة دي النص التأسيسي اللي اعتمد عليه شامبليون وعلماء المصريات في فك شفرة الهيروغليفية بشكل منهجي.

بالشكل ده قدر شامبليون يحول الآثار المصرية القديمة من مجرد قطع ثمينة بيتسابق على امتلاكها صائدين الكنوز، لكعبة المؤرخين اللي فتح لهم الباب لفهم حياة المصري القديم الثرية وفهم معتقداته الدينية وعلومه وتاريخه الاجتماعي والسياسي والعسكري.

أخر كلمة: ماتفوتوش قراءة: شعوب البحر: انهارت على أيديهم حضارات العالم القديم وصدهم رمسيس التالت

تعليقات
Loading...