الهوية الثقافية بين الشرق والغرب: الإصلاح في مقابل التغريب

تتضح آثار المد الثقافي الغربي في مجتمعاتنا الشرقية (العربية) بشكل واضح في معظم معاملاتنا اليومية. بعض الآثار دي بتتسرب غصب عننا بحكم شغلنا اللي بيتطلب جزء كبير منه استخدام مصطلحات غربية أو التعامل مع أدوات وبلغات غربية، نظرًا لواقع سوق العمل والتكنولوجيا النهارده.

أما البعض الآخر فبيتسرب لنا بشكل لا واعي من خلال سيطرة الثقافة الغربية على كل جوانب حياتنا، فبنلاقي نفسنا أحيانًا بنرمي كلمات غربية في نص كلامنا علشان مابقناش عارفين مقابل عربي يوضح قصدنا. والأسوء فهو التسربات الغربية المقصودة لما نتكلم بالإنجليزية أو الفرنسية مع بعض في حين إننا كلنا بنعرف نتكلم عربي، أو لما نسمي التجمعات السكنية في بلادنا العربية بأسماء زيّ “هسياندا” و”بيفرلي هيلز” و”مولبيري” و”بارك ريدج”.

بين الهوية والتغريب، عن: alwatanvoice

التسربات الغربية المقصودة دي هي محاولات للتشبه بالغرب اللي بيمثل صورة الآخر الأكثر تقدمًا في القوة العسكرية والاقتصادية وبالتالي في مجال المعرفة والبحث العلمي، ودي اللي بنقول عليها “عقدة الخواجة” اللي بيصفها طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”، قائلًا: “هذا الوهمَ الآثمَ الشنيعَ الذي يصورُ لهم أنهم خُلقوا من طينة غير طينة الأوربي، وفُطروا على أمزجة غير الأمزجة الأوربية، ومُنحوا عقولًا غير العقول الأوربية؛ فهذا كله باطلٌ سخيفٌ، لا يَثبت أمامَ أيسر التفكير، ولا يستقيم لأهون نظرةٍ في التاريخ من جهة، وفي طبائع الأشياء من جهة أخرى”.

عقدة الخواجة بين الماضي والحاضر

التشبه بالآخر الأقوى مش شيء جديد أو غريب عن الإنسان، اللي من فجر التاريخ بيتشبه بالمنتصر. في كتاب “تأثير اللغة العربية في اللغة الإسبانية وأثرها على الحركة الفكرية في الأندلس”، بتوضح الباحثة، حكمت عبد المجيد علاووي، إنه لما سيطر العرب المسلمين على شبه الجزيرة الإيبرية من 711م لـ1492م، أسسوا حضارة عظيمة ونشروا العلوم والفن والعمران في الأندلس، اللي بقيت منارة العلم العربية في القارة الأوروبية.

جزء كبير من مسيحيين شبه الجزيرة الإيبرية بدأوا يهجروا لغاتهم الأصلية ويستعربوا بشكل كامل طلبًا للعلوم والفنون والثقافة الحديثة اللي دخل بيها الغازي العربي، والجزء اللي ماتعلمش اللغة العربية بشكل كامل بدأ يستخدم ألفاظها في معاملاته اليومية إما بضغط الثقافة المسيطرة أو مجرد رغبة في التشبه بالغازي العربي، أما فئة النبلاء والأغنياء اللي احتكوا بطبقة الحكام العرب تأثروا أكتر بالاستعراب.

في كتابه “خرافة التقدم والتخلف”، بيوضح جلال أمين إن جدته كانت أقل تأثرًا بعقدة الخواجة منه، لإنها ماتعرضتش للرجل الأبيض بصورة مباشرة وبالتالي مانبهرتش باللي قدر يحققه في مقابل اللي حققه مجتمعها في مجال الحداثة. وبيأكد أمين إن ده منح جدته شفافية ووضوح أكتر منه في الحكم على الإنسان الأبيض باعتباره مجرد إنسان، من غير أحكام استعلائية أو استحقارية.

عن: bonhams

في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، لما رجع الراوي من أوروبا لقريته السودانية وسأله أهل القرية إذا كان حال الأوروبيين أفضل من حالهم، كان رده: “مثلنا تمامًا، يولدون ويموتون، وفي الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلامًا، بعضها يصدق وبعضها يخيب”.

إذًا الإنسان هو الإنسان، وتجاربه الفلسفية، اللي بتشكل هويته الإنسانية، تسبح في فضاء كوني متجانس يجمعه عماد الحلم بعالم أفضل، حلم يصدق أحيانًا ويخيب في أحيان تانية. أما مقدار اللي حققه من مقومات الحضارة، فكلها أشياء مؤقتة، زيّ ما بيوضح المؤرخ، ويل ديورانت، في كتابه “قصة الحضارة” إن الحضارة بتتحرك دايمًا زيّ بندول الساعة من الشرق إلى الغرب، وإن كل حضارة هي نتيجة حتمية لتراكمات معارف وثقافات حضارة سابقة لها.

وبيقول جلال أمين في السياق ده: “ما العلاقة بين كون أمتك أقوى من أمتي عسكريًا، أو أكثر رخاءًا أو أكثر تقدمًا في العلم والتكنولوجيا وبين ما إذا كانت.. لغتك أرقى أم لغتي، أدبك في عصر ازدهاره أجمل أو أقل جمالًا من أدبي؟”.. إلخ من علامات الاستفهام عن علاقة الاقتصاد والقوة العسكرية بالمعيار الإنساني للمجتمعات.

تقديس التجربة الغربية في العقلية العربية

نشأت عقدة الخواجة من احتكاك الشرق الأوسط بالرجل الأبيض في شكل مستعمر فضل لسنين طويلة كاتم على أنفاسه ومانع أي حركة فكرية حضارية من الازدهار في أرضه، علشان يخليه تابع اقتصادي يغزي ماكينته الحضارية الحديثة اللي بتعتمد بشكل كامل على موارد المستعمرات.

في ظل قتل أي حراك فكري حضاري في الشرق وتزايد قدرات ومقومات الحداثة الغربية، كبرت عقدة الخواجة في عقلنا الجمعي وفضلت عايشة لسنين طويلة بعد الاستقلال السياسي؛ نظرًا لتراجع قدرات مجتمعاتنا على النمو الحضاري بفعل أثر الغرب الاستعماري في الماضي، أو ضغطه الاقتصادي في الحاضر، أو بفعل أزمات اجتماعية خاصة بينا.

عقدة الخواجة دي بتدفعنا لتصديق شعارات الغرب اللي بتستخدمها لغزو مجتمعاتنا ثقافيًا، فبيقول أمين: “أي هجوم استعماري قديم أو جديد، كان دائمًا يغطي الأهداف الدنئية بشعارات سامية.. ومن ثم تستخدم شعارات الديموقراطية والمعرفة وتمكين المرأة والتنمية للتغطية على أهداف أخرى كالسيطرة على النفط وفتح أسواق للسلع والاستثمارات وتمكين إسرائيل”.

وعلشان نتجنب الغزو الثقافي والاقتصادي ده، لازم ندين عقدة الخواجة في نفسنا، ولكن مش معنى إدانة عقدة الخواجة إننا نتوجه نحو الانعزال التام عن ثقافات الآخر والتقوقع داخل صومعة الهوية الفردية لإن ده شيء مستحيل، بالذات في عصرنا الحديث اللي أصبح فيه العالم مجرد قرية صغيرة تتواصل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لحظيًا، وبتتكسر الحدود الثقافية بين الشعوب وتتحول الثقافة من خصوصية شعبية لمفهوم عالمي تصبح فيه مفاهيم الواقع سائلة، زيّ ما بيقول زيجمونت باومنت في كتابه “الحياة السائلة”.

بيوضح طه حسين: “أنا لا أدعو إلى أن ننكر أنفسنا، ولا إلى أن نجحد ماضينا، ولا إلى أن نفنى في الأوربيين، وكيف يستقيم هذا وأنا إنّما أدعو إلى أن نثبت لأوروبا ونحفظ استقلالنا من عدوانها وطغيانها من أن تأكلنا؟!”

ويؤكد: “لقد كنا معرّضين لخطر الفناء في أوروبا حين كنا ضعافًا مسرفين في الضعف، وحين كنا نجهل تاريخنا القريب والبعيد، وحين لم نكن نشعر أن لنا وجودًا ممتازًا، وحين كان فريق منا يؤمنون في أعماق نفوسهم بأن للأوربي فضلاً على المصري؛ لأنه من جوهر ممتاز، وبأن للقبعة فضلًا على العمامة والطربوش؛ لأنها تغطى رأسًا ممتازًا!”.

إذًا الحل زيّ ما وضح حسين وبيأكد جلال أمين: “الحل الأفضل أو الإصلاح المنشود لا يمكن أن يخرج عن أن نحاول تبني الجديد الصالح مع الاحتفاظ بالقديم الصالح أيضًا، أي الذي لم يفقد مغزاه وصلاحيته مع مرور الزمن”.

وبالتالي احنا محتاجين مفكرين وباحثين ومثقفين متفهمين ومتشربين لتجربة الغرب الحديثة، وفي نفس الوقت متفهمين لواقع مجتمعاتنا الشرقية وأزماتها وهوياتها ومعتزين بالهويات دي. وحدهم المثقفين دول يقدروا يكشفوا نقاط الضعف في تركيباتنا الاجتماعية ويعرفوا ازاي يصلحوها من خلال تطويع التجربة الغربية الحديثة وتطبيقها بما يناسب واقع مجتمعاتنا وتركيباتها الثقافية النهارده.

أما استيراد التجربة الغربية ودفعها بالقوة الغاشمة داخل مجتمعاتنا من خلال محاولات لهدم الهويات المحلية ولإحلال هويات غربية محلها، مش هيؤدي لنتيجة غير خلق مسخ في صورة مجتمع مش قادر يكون غربي ولا عارف يرجع يكون شرقي.

وفي السياق ده، بيقول الباحث عفيف البوني، نقلًا عن المفكر نديم البيطار من كتابه “حدود الهوية القومية”: “إن هوية كل أمة مرتبطة بتاريخها اللي بيشكلها.. وهي بهذا المعنى شبيهة بأرض الوطن، الذي لا يمكن لأحد التفريط فيه أو التنازل عنه. فالولاء للوطن شيء مكتسب يتربى عليه الإنسان ويكون نتيجة حتمية للولاء للهوية. فالأوطان تعرف وتتمايز بهوياتها التي صنعها الفاعلون في تاريخهم الاجتماعي والسياسي”.

ما هي مصر؟ قال المستعمر

الهوية هي الحدود اللي بتحافظ على وجودنا كأفراد داخل منظومة ثقافية تقدر تدينا مفهوم واضح للذات والمعنى، واللي نقدر من خلاله نواجه الحياة بشغف الباحث المستقل والقادر على الاستمرارية في ركب الحضارة الإنسانية، وعلشان كده حاول المستعمر الأبيض دايمًا يطمس هوية مستعمراته.

في بداية القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الأولى، زادت النقاشات القومية والوطنية في العالم، واندفع المصريين يطالبوا باستقلالهم فجاء رد المستعمر الإنجليزي، بسؤال؛ ما هي مصر؟.

سؤال وصفه المفكر والأديب المصري، توفيق الحكيم، في كتابه “مصر بين عهدين” بإنه “المؤلم ذي الإجابة العسيرة على زعماء مصر الذين فوجئوا بالجانب الإنجليزي يتحدث عن تبعية بلدهم سياسيًا للدولة العثمانية وحضاريًا حسب الدين واللغة للعرب”.

طرح طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” السؤال ده، فمأنكرش علاقة المصريين بالشرق الإسلامي ولكن أكد إن هويتهم أقرب لثقافات البحر المتوسط، وجادل في مفاهيم الاستفادة من التجربة الغربية بالشكل اللي يناسب أيديولوجيات الثقافة المحلية.

آخر كلمة: ماتفوتوش قراءة: في ذكرى احتلال الإنجليز لمصر.. عن حرس الملك ووطنية أحمد عرابي وأخطائه

تعليقات
Loading...