مدينة البترا: ازاي خلق العرب واحة في قلب الصحراء وحموها من غير سلاح
لو ذكرنا مدينة البترا أول حاجة بتييجي في بالنا هي الأثر العظيم الموجود النهارده في الأردن، واللي اسمه “الخزنة”، ولكن حكاية البترا أكبر من مجرد أثر عريق محفور في الصخر. البترا حكاية مدينة عظيمة وحضارة عربية عريقة بحكاياتها وأخبارها اللي اسرت شعوب العالم، حكايات عن ناس عاشوا آمنين في مدينتهم اللي أخفوها بكل براعة عن عيون العالم.
كلمة البترا هي كلمة مُعربة من أصل يوناني ومعناها الصخرة، وده لإن الرحالة اليونانيين كانوا منبهرين بقصورها وقبورها المنحوتة في الصخر. وسموها كمان “المدينة الوردية” بسبب اللون الوردي المميز للصخور بتاعتها تحت أشعة شمس المغيب. أما سكانها القدماء فسموها “رقيموا”، على حسب سجلات المؤرخ القديم جوسيفوس.
عاش في المدينة دي عِرق من عرب شبه الجزيرة العربية اسمهم الأنباط، واللي تمت الإشارة لهم في قوله تعالى “وثمود الذين جابوا الصخر بالواد”.
بداية مدينة البترا ومراحل ازدهارها الحضاري
اجتمع الأنباط كمجموعة من بدو رحالة من شبه جزيرة العرب في منطقة آثار مدينة البترا وكان الموقع ده بالذات مهم جدًا في الحضارة والثروة اللي نشأت في المدينة لإنه نقطة التقاء قوافل التجار من كل أنحاء العالم. الموقع التجاري المهم ده أغرى سكانها في البداية بقطع الطرق وسرقة القوافل، ولكن مع الوقت عقدوا هدنة سلام بعد ما اكتشفوا إنهم هيكسبوا أكتر لو فرضوا رسوم على القوافل اللي بتمر في أراضيهم.
كانت الأراضي الصحراوية دي معقدة ومفهاش أي أثر للحياة، وكان المرور فيها صعب، ولكن الأنباط كانوا عارفين أراضيهم كويس جدًا. المعرفة الدقيقة بالمنطقة، بالإضافة لمكر الأنباط وإخفاءهم معارفهم عن العالم، منحهم وبكل استحقاقية لقب فرسان الصحراء، وبقت القوافل مجبرة تستعين بيهم علشان تمر في المنطقة الخطيرة دي بسلام في مقابل مادي مستحق لأهل المدينة.
من هنا بدأت ثروة الأنباط تكبر، وبدأوا يتعلموا ويضيفوا لمعارفهم نتيجة تعرضهم لثقافات مختلفة جات مع القوافل اللي بتمر في أراضيهم، وده اللي سمح لهم ببناء مدينة عظيمة وثرية، وخلقوا ثقافة هي خليط عالمي من ثقافات مصر واليونان والعرب والعراق.
مع الوقت ماعتمدش الأنباط على الثروات اللي بتدخل لهم من قوافل التجار، وبدأوا تجارتهم الخاصة واستغلوا الأهمية الاستراتيجية لموقع مدينتهم. بدأوا يهندسوا مدينتهم بحيث تناسب الواقع المناخي اللي حواليهم، واللي كانت المياه فيه نادرة جدًا، وبنى الأنباط ونحتوا نظام هندسي متطور جدًا. وجهوا الوديان اللي بتجري فيها مياه الأمطار الموسمية علشان تصب في مخازن ضخمة تشبه حمامات السباحة، وفي المخازن دي حفظوا مياه الأمطار على مدار السنة، وحولوها لنظام بيوزع المياه من خلال مجاري منحوتة في الصخر ومصنوعة من الفخار لكل أنحاء المدينة.
مافيش سجلات تاريخية بتوصف حضارة وثقافة الأنباط جات بشكل مباشر منهم غير مجموعة من النقوش على القبور اللي حفروها في صخور شبه الجزيرة العربية، وعلشان كده بنعتمد في دراسة ثقافتهم وعقائدهم ونمط حياتهم على السجلات اللي وصلت لنا من ناس زاروا المدينة دي، زيّ الرحالة الروماني “أثينودوروس” واللي زار البترا في سنة 30 قبل الميلاد.
كتب أثينودوروس بانبهار عن ثقافة أهل المدينة، وذكر إنه ماشفش أي عبيد في المدينة خالص، وده كان شيء غريب بالنسبة لمواطن عاش في روما، وهي الدولة اللي كانت قائمة في الوقت ده على مبدأ العبودية. وقال كمان إن من عادات أهل المدينة في المجالس بتاعتهم إن واحد منهم يقوم يخدم على اللي قاعدين بالدور، وذكر إن حتى الملك نفسه لما بييجي عليه الدور بيقوم يخدم على الناس. وأتكلم أثينودوروس بشكل واسع عن حس العدالة والرحمة اللي كان منتشر بين أهل المدينة وانتشار نسبة التعليم بينهم، وقال إن معظم أهل المدينة كانوا يقدروا يقرأوا ويكتبوا.
انهيار مدينة البترا: الغزو الروماني وتغير النظام الاقتصادي العالمي
بدأت النهاية الحزينة لمدينة البترا سنة 312 م لما مات الإسكندر الأكبر واتوزعت مملكته الضخمة على أصدقاءه، وكان نصيب أنتيجوس الأعور، حكم منطقة سوريا، وبدأ حملات عسكرية طموحة للسيطرة على منطقة شبه الجزيرة العربية، وبعت أنتيجوس جيش كبير مع قائد جيوشه أثنايوس، اللي وصلوا المدينة بمساعدة بعض الجواسيس بليل، ولقوها مفتوحة قدامهم وكل أهلها نايمين، ومعظم رجالها مش موجودين، علشان كانوا في سفريات للتجارة.
أسر أثنايوس كل اللي قدر عليه من أهل المدينة كعبيد، وقتل وجرح اللي مش محتاجه، ونهب ثروات ضخمة من المدينة على قد ما خيول جيشه قدرت تشيل. وصل بعد ساعات قليلة رجال البترا وشافوا اللي حصل، فركبوا جمالهم واتعقبوا جيش أثنايوس ولقوهم نايمين في وسط الصحراء، فقتلوا منهم عدد كبير جدًا واستردوا ثرواتهم وأهلهم اللي تم أسرهم.
الخسارة المهينة للملك أنتيجوس تم تتويجها بعرض هدنة سلام من الأنباط، ولكن إحساس الملك بالإهانة خلاه خان المعاهدة دي وبعت جيش أكبر بقيادة ابنه ديمتريوس. بعد كارثة أثنايوس، حط الأنباط أبراج مراقبة على حدود المدينة، ولما شافوا جيش ديمتريوس بيقرب هربوا بكل ثرواتهم وأهلهم لحصن في منطقة مرتفعة اسمها أم البياره واستخبوا هناك.
حاول ديمتريوس يوصل لأهل المدينة في حصنهم لكن ماقدرش، ولما اكتشف إنه مش هيقدر يهزمهم، سمع صوت شاب من الأنباط بيقول على حسب سجلات ديودور الصقليّ:
“أيها الملك ديمتريوس، بأية رغبة وتحت أي إكراه تحاربنا، نحن سكان الصحراء الخالية من الماء، والزرع والنبيذ وأي شئ مما يحتاجه الإنسان من أجل الحياة. لقد هجرنا كل أراضي البشر لإننا لا نريد أن نكون عبيد أو نتخذ عبيدًا.” وبصوت جهوري أضاف الشاب: “عشنا في الصحراء القاحلة ولم نرغب يومًا في ايذائك أو غيرك، ولذلك نرجوك أنت ووالدك أن تتركونا بسلام، وسنغدق عليكم بالهدايا والثروات وسنصبح حلفائكم”. وفعلًا قبل ديمتريوس عرضهم، وانسحب هو وجيشه في مقابل الهدايا اللي عرضها الأنباط.
بعد كده اتحولت البترا لمقاطعة رومانية حليفة، ومع الوقت ومع سيطرة الرومان على المنطقة وتحويلهم طرق التجارة البرية لبحرية، وضعف القيمة الاستراتيجية لموقع المدينة، بدأ عصر الانهيار اللي انتهى بهجر كل من كان عايش فيها.