مستقبل القراءة في عصر المحتوى المرئي: هل يموت الكتاب؟
جزء كبير من ذكريات طفولتي ومراهقتي مرتبط بالكتب بشكل كبير، من أول مكتبة المدرسة اللي فتحت لي باب القراءة، لكتب الجيب اللي كانت عبارة عن روايات قصيرة أو مقدمات مختصرة لمواضيع مختلفة سواء في العلوم أو الفلسفة أو التاريخ.. إلخ. وكتب الجيب كانت بتنزل في سلاسل مختلفة وكل سلسلة كانت بتختص بنوع معين من القراءة. وكنت دايمًا ماشي بكتاب منهم في جيبي علشان أقراه في في المواصلات، أو في الكافيه وانا مستني حد، أو في أي فرصة أقدر أقرأ فيها.
واحدة من أهم السلاسل دي كانت “روايات مصرية للجيب” وكان فيها سلسلة روايات اسمها “عبير” وكان القائمين عليها بيترجموا روايات رومانسية أجنبية للغة العربية. ورغم إن محتوى الرواية كان يغلب عليه الرومانسية الكلاشيه المبالغ فيها والحكايات ذات القيمة الأدبية الضعيفة إلا إن السلسلة دي عرفتني على مفهوم الرواية وتركيبتها الدرامية وجهزتني لقراءات أدبية أعمق لكُتاب أكثر تعقيدًا، زيّ دوستويفسكي ونجيب محفوظ وهاروكي موراكامي وجورج أورويل.
وطبعًا ماينفعش نتكلم عن “روايات مصرية للجيب” من غير ما نذكر اتنين من أهم الكُتاب المصريين اللي شاركوا في تقديم روايات الجيب للشباب. الأول هو الدكتور أحمد خالد توفيق اللي كتب سلسلة “ما وراء الطبيعة” وسلسلة “فانتازيا” وسلسلة “سافاري” وغيرهم، وقدرت أعماله تجذب الشباب للقراءة بالمحتوى المختلف اللي قدمته من فانتازيا وخيال ومغامرات وعوالم ماورائية.
أما الرائد التاني لكتب الجيب هو نبيل فاروق اللي قدم للشباب المصري أشهر سلسلة في “روايات مصرية للجيب” وهي سلسلة “رجل المستحيل”، اللي عشقها الوطن العربي كله وفضل متابع مغامرات الجاسوس المصري الأخطر على الإطلاق “أدهم صبري” لسنين طويلة، ولحد ما اتوقف إصدار سلسلة “روايات مصرية للجيب” في سنة 2009.
ورغم إن النوع ده من الكتابة كان مشهور جدًا في الأوساط العربية في وقت نشاطه، إلا إن نقاد الأدب تجاهلوه تمامًا بوصفه أدب جماهيري أو “بوب آرت”، وفضلت العلاقة بين قراء وكُتاب النوع ده من الأدب ونقاد وكُتاب الأدبيات الأخرى مقطوعة تمامًا، واللي أثر بشكل سلبي على تطور النوع ده من الأدب، اللي كان بيجذب شريحة كبيرة من الشباب الناشط على أرض الواقع.
مستقبل القراءة في عصر المحتوى المرئي: فين زمن روايات مصرية للجيب؟
وأنا بنضف البيت لقيت صناديق قديمة فيها كل نسخ سلاسل “روايات مصرية للجيب” اللي قريتها على مدار طفولتي ومراهقتي وشبابي، وأنا بفتش في الكتب دي سألت نفسي: “هل الناس لسه بتقرأ؟ واحنا فين من زمن كتب الجيب؟”. وعلشان أجاوب على السؤال ده، كلمت واحد من مديرين دور النشر والتوزيع، وسألته السؤالين دول. وقال إن سوق القراءة في مصر والعالم كله بيواجه أزمة كبيرة، ووضح إن الناس مابقتش بتقرأ زيّ زمان واللي بيقرأوا النهارده قليلين، وده اللي خلى سوق الكتب ماببقاش زيّ زمان.
أما الكاتب السابق في مجلة روز اليوسف، طارق سلامة، فشايف إن توقف سلسلة “روايات مصرية للجيب” كان سبب في تراجع مستويات القراءة في مصر والوطن العربي، لإن السلسلة دي كانت بتجذب المراهقين واليافعين بمحتوى خفيف ومثير، فبتحببهم في القراءة وبتحمسهم للبحث والقراءات الجادة.
ووضح إن النوعية دي من الكتب كانت بتصدر منها حاجات زي “سلسلة روايات عالمية للجيب” واللي كانت بترجم روايات ذات قيمة أدبية تقيلة في شكل مبسط، وبالتالي كانت بتعرف الشباب بالأدباء العالميين التقال، زيّ الكلاسيكيين الروس والفرنسيين والإنجليز.
وأكد سلامة إن مستويات القراءة في العالم كله بدأت تنخفض بشكل كبير بسبب انتشار المحتوى المرئي على شاشات الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية ومن خلال مواقع السوشيال ميديا زي تيك توك ويوتيوب وغيرهم. وأضاف إن المحتوى المرئي بيناسب المجتمع المعاصر اللي عايش في عصر شديد السرعة، وبالتالي الناس بتبقى محتاجة معلومة جاهزة في قالب مرئي سريع وبينجز علشان يتناسب مع ج
داول أعمالهم المشغولة وتيمة حياتهم السريعة.
غير إن سلامة شايف إن تراجع مستويات القراءة في مقابل المحتوى المرئي مش حاجة كويسة لإن المحتوى المرئي بيعود العقل على الكسل، ووضح إن المحتوى المرئي بيدي العقل كل التفاصيل الخاصة بالفكرة والعمل على الجاهز، في مقابل الكتاب اللي بيسطر الفكرة والعمل في شكل كلمات وبيحولها لشئ أقرب للكود ويسمح لخيالك الواسع يبني عالم خاص بك ويخلق التفاصيل المثالية بالنسبة لك، وكمان بيخليك تتابع السرد سواء الأدبي أو المعلوماتي بدقة وتركيز يحرك كل عصبونة في دماغك. وقال سلامة إن عملية القراءة على الأساس ده بتمثل تدريب نشط للخيال والفكر.
هل يعود الكتاب ملكًا؟
إجابة السؤال ده مش بسيطة، لإن الواقع الحالي ممكن يكون ضد مفهوم الكتاب التقليدي، ولكن هيفضل للكتاب قيمته الحميمية بالنسبة لعشاقه، لإن القراءة فعل شخصي وحميمي بيرتبط فيه القارئ بمحتوى الكتاب وكاتبه من خلال المشاركة ما بين الكاتب والقارئ في خلق عالم الرواية وتفاصيلها الدقيقة، ولإن مافيش أي شكل تاني من أشكال نقل المعلومة أو قص الحكاية يقدر يعيّش المتلقي نفس التجربة الحميمية دي إذًا فالكتاب قادر على الصمود في وجه السوشيال ميديا والمحتوى المرئي.