لم يكن الرقص الشرقي في مصر مجرد حركات متناغمة على أنغام الموسيقى، بل كان مرآة للهوية الفنية والثقافية لعصرٍ ذهبي لن يتكرر.
في الزمن الجميل، تألقت راقصات لا يشبهن أحدًا، لكل منهن حكاية تُروى، وأسلوب فني لا يُنسى.
من بديعة مصابني التي أسست أول مدرسة للرقص، إلى تحية كاريوكا التي ارتقت به إلى مصاف الفنون الرفيعة، وصولًا إلى سامية جمال ونعيمة عاكف اللتين مزجتا بين الشرق والغرب بجسدٍ واحد.
نعيد اكتشاف أشهر راقصات الزمن الجميل في مصر، ونتأمل كيف تحوّلت خشبات المسارح إلى مسارح للحكايات، وكيف أصبح الرقص الشرقي لغةً فنّية لا تعرف الصمت.
لا تفوّت قراءة: حفلات نجوم الغناء من أيام الزمن الجميل.. اكتشف أسعار تذاكر حفلتك المفضلة كانت بكام!
بديعة مصابني: عميدة الرقص الشرقي ومؤسسة مدرسة النجوم
ولدت بديعة مصابني في دمشق عام 1892 لأب لبناني وأم سورية، وعاشت حياة حافلة بالمغامرات في ظل تحولات سياسية كبرى، بدءًا من الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، مرورًا بالحرب العالمية الأولى، ووصولًا إلى حقبة الانتدابين البريطاني والفرنسي.
انتقلت مع والدتها إلى مصر، وهناك بدأت رحلتها الفنية. تحكي عن بدايتها عندما كانت تتزلج في حديقة الأزبكية، وهناك دخلت مسرحًا للمرة الأولى وشعرت بأن المسرح هو عالمها الحقيقي.
هذا الحلم الطفولي قادها إلى الشهرة كراقصة وممثلة ومطربة، حتى أصبحت رمزًا لمسرح “الفودفيل” في مصر طوال أربعين عامًا.
أسست “فرقة بديعة مصابني” التي كانت أول أكاديمية فنية غير رسمية تخرّج منها عدد من ألمع نجوم الفن، من بينهم فريد الأطرش، محمد فوزي، سامية جمال، تحية كاريوكا، إسماعيل ياسين، زينات صدقي.

بعد انفصالها عن الفنان نجيب الريحاني، أسست “كازينو بديعة” واهتمت بتطوير فن الرقص الشرقي عبر دمج الموسيقى العربية مع الأنغام الغربية.
تقول بديعة: “كنت أسافر إلى أوروبا كل عام وأعود بتقنيات جديدة أطبقها في مسرحي”.
بديعة مصابني عن راقصات الزمن الجميل
“أشهر راقصاتي كانت تحية كاريوكا، فقد كان رقصها شرقيًا أصيلًا وتعلمت مني استخدام الصاجات، وكانت تحب الغناء ولديها صوت جميل. كما أنني أحب سامية جمال، فقد بدأت أيضًا من عندي”.
لا تفوت قراءة: زياد الرحباني كما لم يُروَ من قبل: محطات خفية في حياة الموسيقي الثائر
تحية كاريوكا: الراقصة التي ارتقت بالرقص الشرقي إلى الفنون الرفيعة
اسمها الحقيقي “بدوية محمد علي “، وعرفت فنيًا باسم “تحية كاريوكا”، واحدة من ألمع راقصات الشرق في تاريخ الفن المصري.
اقترنت مسيرتها بتطوير الرقص الشرقي ومنحه بُعدًا فنيًا وثقافيًا جعله محل تقدير واهتمام من كبار المفكرين والفنانين.
بدأت شهرتها عام 1940، عندما قدمت رقصة “الكاريوكا العالمية” خلال أحد عروض فرقة بديعة مصابني، وهي رقصة مستوحاة من التراث البرازيلي.
ومع أن الرقصة لم تكن من ابتكارها، لكن تحية أضافت إليها طابعًا شرقيًا خاصًا جعلها لصيقة باسمها، حتى باتت تعرف برقصة “الكاريوكا”.

شبهها الموسيقار محمد عبد الوهاب بالملحن الثوري سيد درويش، لما أحدثته من ثورة في الرقص الشرقي بإعادته إلى جذوره الخالصة، بعد أن طغى عليه الطابع الغربي.
بدأت تحية رحلتها الفنية من خلال فرقة بديعة مصابني، ولفتت الأنظار بسرعة بأسلوبها المتفرد.
الذي جمع بين الإيقاع الجسدي المحسوب والكاريزما الحاضرة، فكان الجمهور يقصد الأماكن التي ترقص فيها خصيصًا لرؤيتها على المسرح.
دخلت مجال السينما عام 1935 من خلال فيلم “دكتور فرحات” للمخرج توجو مزراحي، ثم توالت مشاركاتها السينمائية.
شاركت في أكثر من 300 فيلم، من أبرزها: “خلي بالك من زوزو”، “شباب امرأة”، “سمارة”، “درب العوالم”، “أم العروسة”، “الفتوة”، و”شاطئ الغرام”.
لا تفوّت قراءة: أم كلثوم: مسحت بمنديلها الحريري دموع النكسة وساندت المقاومة بصوتها العذب
سامية جمال: العفريتة السحرية وسيدة الرقص المتفرد
عرفها الجمهور بلقب “الكهرمانة” و”العفريتة السحرية”، وكانت واحدة من أبرز راقصات زمن الفن الجميل، حيث تألقت على الشاشة واستطاعت أن تتربّع على عرش الرقص الشرقي بأسلوب فريد ومختلف.
ولدت سامية جمال في عام 1922 بمحافظة بني سويف، واسمها الحقيقي زينب خليل إبراهيم. بدأت مشوارها الفني من خلال الاستعراضات الجماعية.
قبل أن تشق طريقها نحو النجومية في عالم السينما والرقص الشرقي، وتمكنت من المزج بين الرقص الشرقي والغربي بطريقة مبتكرة، فأنشأت مدرسة فنية مستقلة ميزتها عن راقصات جيلها.
دخلت مجال السينما في عام 1943، حيث كونت ثنائيًا ناجحاً مع الفنان فريد الأطرش، وقدمت أجمل وأشهر رقصاتها على أغنياته.
لم تكن سامية تعتمد فقط على قوة الحضور مثل تحية كاريوكا، بل امتلكت طريقة تواصل خاصة مع الجمهور عبر نظراتها وتعابير وجهها.
وقد حرصت سامية جمال في عروضها الراقصة على تقديم تجربة بصرية متكاملة من خلال الملابس اللافتة، والإضاءة المدروسة.
والموسيقى المختارة، إضافة إلى “التابلوهات” التي كانت تشارك فيها راقصات صغيرات في الخلفية، ما جعل من رقصها حالة فنية متكاملة.
لم تكتفي سامية جمال بالسينما المحلية، بل خاضت تجارب عالمية أيضًا، فشاركت في الفيلم الأمريكي “وادي الملوك” من خلال رقصة استعراضية مدتها ثلاث دقائق.
كما قامت ببطولة الفيلم الفرنسي “علي بابا والأربعين حرامي” حيث أدت دور “مرجانة”.
ارتبط اسمها أيضًا بالقصر الملكي في عهد الملك فاروق، حيث كانت الراقصة الرسمية للقصور.

لا تفوت قراءة: حروب القمة في الغناء العربي: من زمن أم كلثوم وعبدالحليم إلى عمرو دياب وتامر حسني
نعيمة عاكف: فتاة السيرك التي سحرت العالم برقصها
ولدت نعيمة عاكف في مدينة طنطا، وسط أجواء استعراضية فريدة، حيث كان والدها يمتلك سيركًا يقدم عروضه في ليالي الاحتفال بمولد السيد البدوي.
نشأت في بيئة مليئة بالألعاب البهلوانية، فكان من الطبيعي أن تتجه نحو الفن منذ نعومة أظافرها.
تميزت مسيرتها بتقديم فنون متعددة جمعت بين الرقص، والغناء، والمونولوج، والتمثيل، مما جعلها فنانة شاملة.
انطلاقتها السينمائية الحقيقية كانت من خلال ملهى الكيت كات، الذي كان مقصدًا لكبار المخرجين، وهناك التقطها المخرج أحمد كامل مرسي وقدمها كراقصة في فيلم “ست البيت”.
ومثلها مثل سامية جمال استطاعت نعيمة عاكف أن تحجز لنفسها مكانة عالمية، حيث حصلت على لقب “أفضل راقصة في العالم” من مهرجان الشباب العالمي في موسكو عام 1958 بعد تقديمها رقصة “المماليك”.
“عندما أعلن فوزي بالميدالية الذهبية، عدت بذهني إلى سنين مضت، منذ كنت طفلة عفريتة تهوى الرقص والقفز”.
نعيمة عاكف عن فوزها بأحسن راقصة في العالم
واصلت نعيمة تألقها في العديد من الأفلام الناجحة مثل “فتاة السيرك”، و”أربع بنات وضابط”، و”تمر حنة”، و”أمير الدهاء”، و”بياعة الجرايد”.
وكانت تعتمد على إكسسوارات الرأس المتناسقة مع بدلاتها، مما أضفى طابعًا خاصًا على مظهرها.
كما عرفت بجرأتها في تصميم بدلات الرقص، ومن أشهر رقصاتها في فيلم “يا حلاوة الحب” عام 1952 المقتبس من الفيلم الفرنسي “ليلة في الفردوس”.
لا تفوّت قراءة: نجمات جسدن دور “الست”: من منهن استطاعت أن تلمس روح أم كلثوم؟
نجوى فؤاد: أسطورة استعراضية دخلت المجال بالصدفة
اسمها الحقيقي عواطف محمد عجمي، ولدت في السادس من يناير عام 1943 في حي الجمرك بمدينة الإسكندرية، لأب مصري وأم فلسطينية.
لم تبدأ مشوارها في الفن مباشرة، بل عملت في بداية حياتها كعاملة تليفون في مكتب عرابي، وكيل الفنانين المعروف، ومن هناك بدأت تكتشف عالم الفن وتتعرف على كواليسه.
كان حلمها أن تصبح راقصة، وجاءت الفرصة الأولى بالصدفة، لتبدأ بعدها مسيرتها في صالات الرقص. ومزجت بين الرقص والتمثيل.
وسرعان ما حصلت على أول فرصة حقيقية عندما وقعت عقد بطولة فيلم “ملاك وشيطان” مع صلاح ذو الفقار وعز الدين ذو الفقار، وهو الفيلم الذي شكل انطلاقتها السينمائية الكبرى.
أسست نجوى فؤاد شركة إنتاج سينمائي، وقدمت من خلالها عددًا من الأفلام التي قامت ببطولتها.
من بينها “ألف بوسة وبوسة”، و”حد السيف”. كما شاركت في بعض المسرحيات مثل “بداية ونهاية” و”لا العفاريت الزرق”، وقدمت استعراضات راقصة منها “قمر 14″ من ألحان محمد عبد الوهاب، و”ليلة الدخلة”.

لا تفوّت قراءة: حين يُروى الأدب بالكاميرا.. 7 روايات عربية تحولت إلى مسلسلات وأفلام
سهير زكي: أول من رقصت على أغاني أم كلثوم
بدأت سهير زكي خطواتها الأولى نحو الشهرة في ستينيات القرن الماضي من خلال برنامج “أضواء المسرح”، حيث شاركت كهاوية في الرقص.
سرعان ما وجدت طريقها إلى الملاهي الليلية، حيث جذبت الأنظار بجمالها وهدوئها وأناقتها على المسرح.
لم تكن سهير بمعزل عن الجيل الذهبي للرقص، فقد استفادت من نصائح الراقصتين الأسطوريتين تحية كاريوكا وسامية جمال.
والمثير في حكايتها إنها كانت أول راقصة ترقص على موسيقى أغاني أم كلثوم، ما أثار غضب “الست” في البداية. فقررت أم كلثوم أن تحضر إحدى حفلاتها بنفسها.
وقد فعلت. لكنها خرجت بانطباع مختلف تمامًا بعد أن شاهدت سهير ترقص على أنغام “ألف ليلة وليلة”. في أول لقاء بينهما، قالت لها كوكب الشرق:
“كنت ناويالك على نية سودا، بس بعد ما شوفتك غيرت رأيي”.
امتدت شهرتها إلى خارج نطاق الفن، فصارت تُعرف بـ”راقصة الرؤساء”. طلبها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لإحياء حفل زفاف ابنته.
ورقصت أمام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، والرئيس الروسي بريجينيف، وكانت بذلك أول راقصة مصرية تُقدم عرضًا في الاتحاد السوفيتي.
