ثلاثية الفن والسياسة والدين: رحلة امتزاج الفن المصري القديم بالفن اليوناني
قامت علاقات وثيقة بين مصر القديمة واليونان، كحضارتين نشؤوا في حوض البحر المتوسط، وبيوضح طه حسين في كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” إن العلاقات القديمة دي كان لها تأثير تبادلي قوي على مقومات الحضارتين الثقافية والفكرية، سواء قديمًا أو حديثًا.
وبيقول الدكتور خالد غريب، رئيس قسم الآثار اليونانية والرومانية بجامعة القاهرة: “امتزاج الحضارة المصرية القديمة بالحضارة اليونانية ماكانش وليد قدوم الإسكندر الأكبر لمصر، ولكن كان الإسكندر مسك الختام لهذه العلاقة”.
بيأكد غريب إن حكام الأسرة الـ26 في العصر الصاوي استعانوا بعناصر يونانية في الجيش المصري، وده اللي زود من وجود اليونانيين في مصر لحد ما عاشوا فيها وتمصروا بشكل كبير، وبيوضح إن النصوص المصرية القديمة ذكرت كلمة “وينن” واللي معناها المهاجر، أو الآتي من الخارج، واللي جات منها كلمة “يونان” في اللغة العربية، أما اليونانيين فسموا بلادهم “هيلاس”، وجات كلمة “إغريق” “Greek” من اللغة اللاتينية.
بيوضح غريب إن النصوص القديمة ذكرت على لسان “سنوهي” كلمة “حاو نبو” والمقصود بها “بحر إيجة” الواقع بين شبه الجزيرة اليونانية والأناضول، وبالتالي بيأكد غريب إن المصري القديم عرف بلاد اليونان قبل قدوم الإسكندر بـ1600 سنة.
اشتغل اليونانيين المستوطنين في مصر بالتجارة، واتجوزوا من المصريين، وامتزجت ثقافتهم بالثقافة المصرية، ولكن ظل الفن المصري محتفظ بسماته الثابتة، وبيوضح غريب: “الفن والدين والسياسة في مصر القديمة ثلاثية لا تنفصل”، وبيضيف: “الإسقاط الفني-الديني-السياسي عند المصري القديم كان إرهاصة صريحة لمرحلته وحياته”.
اتغير الوضع مع احتلال الإسكندر لمصر سنة 332 ق.م، وبدأ عصر الحكام البطالمة مع بطلميوس الأول، ومن هنا بدأت تظهر آثار امتزاج الفن المصري بالفن اليوناني بشكل واضح، وبيوضح غريب: “مصر كان بيتم احتلالها لسببين؛ القمح والبردي”، وبيضيف: “مصر كانت مركز غلة القمح للعالم كله”.
سمات الفن المصري القديم: العقيدة وراء فن النحت
يقول محمد أبو القاسم في كتاب “أثر العقيدة على فن النحت” – سلسلة علوم وفنون، العدد التاني، إن عقيدة البعث اللي آمن بها المصري القديم كانت دايمًا دافع قوي ورا أهم أعماله اللي تركها لنا، وبيضيف إن المصري القديم كان بيعمل دليل لروح الميت علشان تمشي عليه في طريق عودتها، وكان الدليل ده هو رسوم ومنحوتات بتمثل الميت، وبتتميز بإظهاره في أحسن مراحل حياته، بما فيها من شباب وقوة.
وبيضيف أبو القاسم إن الفنان المصري القديم أغفل العيوب الجسمانية، علشان ماتتكررش في الحياة التانية، وأبرز أهم مميزات الميت سواء في وقفة أو جلسة مهيبة، منحوتة في أصلد وأشد الأحجار؛ علشان تستمر في مواجهة الطبيعة لحد اليوم غير المعلوم لعودة الروح.
السبب نفسه -مواجهة عوامل التعرية- دفع الفنان المصري القديم لإغفال التفاصيل ودمجها مع بعض، واختيار الحركات الهادية، مع تقريب الأطراف من الجسم في محاولة للتجاوب مع طبيعة الخامة، ولخدمة الغرض من بقاء التمثال لفترة طويلة، وبيقول غريب: “الفنان المصري القديم كان بيخاف على الحجر من التفريغ”.
سمات الفن اليوناني: الفن في خدمة الجمال والمثالية
بيقسم علماء الآثار فنون الحضارة اليونانية لعدة فترات؛ منها الفترة القديمة، والفترة الكلاسيكية، والفترة الهيليستينية. ويتضح من منحوتات الفترة القديمة، اللي ظهرت مع فتح طرق التجارة مع مصر، تأثر الفنان اليوناني بالمصري القديم من حيث الثبات، فبيظهر تمثال “كوروس” من الفترة القديمة، متصلب في وقوفه، وإيديه جنبه، وقدمه اليسرى تتقدم اليمنى قليلًا.
الفترات اللي تبعت الفترة القديمة قدمت مفاهيم الحركة والواقعية والدافع الجمالي بشكل واضح في فنونها، فكان الدافع الأساسي اللي بيحرك الفنان اليوناني هو تصوير الجمال بشكل مثالي، وعلشان كده ظهرت أعماله متناسقة ومتناسبة ومتوازية. وعلى عكس الفن المصري القديم اللي بيصفه خالد غريب بفن الثبات، كان الفن اليوناني فن متحرك.
استهدف الفنان اليوناني تمثيل الشكل البشري بطريقة مثالية، سواء من خلال الرسم أو النحت، وعلشان كده ركز بشكل كبير على ألعاب القوى لإظهار أجسام مثالية وعضلية، ولإنه كان بينحت تماثيل الأبطال في الجمنازيوم، في مشاهد حركية واقعية، منح التماثيل حيوية ظاهرة في حركة الأطراف الحرة بعيدًا عن الجسد.
بيقول غريب: “الفن المصري فن ثابت، فن اعتمد في أساسه على الملكية”، وبيوضح: “الناس على فن ملوكهم في الحضارة المصرية القديمة” وبيأكد إن الفن المصري القديم اعتمد على الثبات على الأرض وعدم وجود عناصر التفريغ، إلا في حالات نادرة.
بيقول غريب: “التمثال هو شخصية وكينونة الميت، والكا (النفس) لازم ترجع للتمثال لو ماقدرتش ترجع للجثة”، وبيقارن بين الفن المصري والفن اليوناني: “الفنان اليوناني كان بيمثل بطل في الجمنازيوم، وبالتالي لازم يمنح التمثال حرية الحركة والواقعية”، وبيوضح: “التمثال عند اليوناني هدفه دنيوي، أما عند المصري القديم فكان هدفه هو العالم الآخر”.
وبيضيف إن الفن المصري ماعرفش الحركة غير بعد العصر اليوناني والروماني، وبيوضح: “كان الفن القبطي فن شعبي، ظهرت فيه الحركة لأول مرة في فنون المصريين، وده لإنه فن ظهر بعد العصر الروماني”.
أيقونات امتزاج الفن المصري بالفن اليوناني
العهد اليوناني والروماني في مصر كان عهد بحث الحكام عن الشرعية في الملك على الأرض اللي محتلينها، وعلشان كده اتأثرت الفنون المصرية القديمة بالنزعة السياسية الجديدة.
بيقول الدكتور خالد غريب: “الفنان دايمًا هو ابن المرحلة” وبيوضح: “فضل الفنان المصري في العصر اليوناني والروماني متمسك بتصوير معبوداته الدينية القديمة، وتمسك الحاكم اليوناني والروماني بتصوير نفسه على الشكل المصري القديم، وفي ذلك بُعد سياسي يبحث فيه الحاكم الأجنبي عن الشرعية”.
بيضيف غريب: “ظلت نصوص المعابد مكتوبة باللغة المصرية القديمة، فكانت معابد مصرية ولكن تأثرت التفاصيل الفنية بمفاهيم المرحلة الجديدة”.
الفن في مصر العليا خلال العصر اليوناني
لوحة المجاعة اتكتبت في عصر بطلميوس الخامس، جنوب الشلالات في جزيرة سهيل في “الفنتين” وظهر فيها نوع من الكتابة اسمها الكتابة المُعماة، وده كان شكل من أشكال الخط المصري اللي ظهر في العصر اليوناني، وكانت لغة لا يفهمها سوى الكهنة. بيوضح غريب: “أرجع بطلميوس الخامس قصة المجاعة 2000 سنة لورا، لعهد الملك زوسر، علشان يُكسب المكان أهمية، ويكسب نفسه شرعية عند المصريين”.
أما معبد فيله، معبد إيزيس وأوزوريس وحورس، واللي كان قُدس المصريين من أقدم العصور، فبيوضح غريب إن الإضافات اليونانية اللي موجودة فيه بتظهر سمة فنية جديدة تتضح في امتلاء منطقة البطن والأرداف في تصوير الحُكام الجدد، وبتدخل على الفن المصري سمة جديدة هي إظهار الملامح الأنثوية وملامح القوة.
بتتضح السمات الفنية الجديدة في معابد زيّ كوم امبو وإدفو وإسنا -معابد مصرية قديمة– في إطار سياسي من مقاومة المحتل، اللي مش قادر الفنان المصري يقول عليه محتل، فصوره لابس صندل في قدس الأقداس، وبالتالي وصل للمواطن المصري معلومة بين السطور مفادها إن الحاكم ده مش مصري، ده راجل محتل.
ويظهر في معبد كوم امبو لوحة منقوشة للملك البطلمي ومعاه اتنين ستات، واحدة هي أخته والتانية هي زوجته وبنت أخته في الوقت نفسه، وفي اللوحة دي شكل من أشكال مقاومة المحتل، من خلال فضح الأزمات العائلية الموجودة داخل البيت الحاكم.
يقول غريب: “معبد دير المدينة في غرب الأقصر هو واحد من المعابد اللي اعتذر فيها الحاكم البطلمي للمصريين، فكان معبد سياسي بالدرجة الأولى”، وبيضيف: “المعبد اتبنى بعد الحرب السورية الرابعة، اللي قامت سنة 219-217 ق.م بين السلوقيين والحكام البطالمة في مصر، واستعان فيها الملك بطلميوس الرابع بالجند المصريين لأول مرة وحقق النصر، فاعتذر للمصريين على عدم تقديرهم من خلال تصوير منظر غير تقليدي على الإطلاق”.
بيضيف غريب: “صورت الجدارية منظر محاكمة الملك في العالم الآخر أمام أوزوريس”، وبيضيف: “دي أول مرة يتحاكم فيها الحاكم جوا المعبد، وبنقدر نلاحظ في النقوشات إن إيد الفنان كانت مختلفة عن إيد أجداده من المصريين القدماء، تأثرًا بالمرحلة الجديدة”.
وبيحكي غريب عن معبد دندرة، وهو معبد حتحور بقنا: “لما إيزيس ولدت حورس، خبته في أحراش الدلتا، قابلتها حوت حِر (مأوى حورس)، ومن منطلق الأسطورة الدينية أصبح معبد حتحور مأوى أي ملك مصري”، وبيضيف: “لما ولدت كليوباترا قيصرون من علاقة غير شرعية مع قيصر، حبت تقدمه للآلهة المصرية فـقدمته على جدران معبد دندرة”.
الفن في مصر السفلى في العصر اليوناني
مصر العليا (الصعيد في الجنوب) فضلت فيه آثار المزج بين الفنين قليلة، وكانت التصويرات الفنية مصرية جدًا حتى في عز ازدهار اليونانيين والرومان في مصر، وبيقول غريب: “كل ما بنتجه ناحية الشمال بتقل النزعة المصرية، لحد ما نوصل لنقراطيس (أول مستوطنة يونانية في مصر) والإسكندرية”.
في شمال مصر، ظهرت آثار المزج في المقابر مش المعابد، وبيقول غريب: “في مقبرتي بيتوزيريس وإيزودورا في المنيا، بنلاحظ إن الفنان مصور موضوعات دينية مصرية ولكن بملامح يونانية”، وبيوضح: “المستعمر اليوناني أجبر الفنان يصور موضوعاته المصرية بملامح يونانية”. وبيضيف غريب: “في بيتوزوريس كان المزج غير عادي، لكن لا زالت الهوية مصرية، لإن الكتابة هيروغليفية والموضوعات الدينية مصرية”.
بيقول غريب: “لما اتبنت إسكندرية 332 ق.م، كان السؤال هل هنعملها مدينة مصرية ولا بملامح بطلمية؟”. كانت الإسكندرية مدينة بطلمية بالكامل، ولكن فضلت ملامح الديانة المصرية هي المسيطرة، رغم إن الفن كان يوناني بالكامل، وبيوضح غريب: “أصبح سيرابيس اللي هو صورة أوزوريس إله إسكندرية، وأصبحت إيزيس، واحدة من أقدم الربات المصريات، زوجته وربة الفنار اللي بتحميها”.
آخر كلمة: ماتفوتوش قراءة: الهوية الثقافية بين الشرق والغرب: الإصلاح في مقابل التغريب