في أرضٍ اعتادت أن تُقاوم بالصوت والصورة، يكادُ المايكروفون أن يسقط من يد صاحبه، ويجفّ حبر الأقلام قبل أن يُكمل رواية الجرح.
في غزة، لم يعد الخطر فقط صاروخًا يهوي أو قصفًا يهدم، بل مجاعة تقترب، تحاصر الحقيقة، وتكاد تُسكت آخر منابرها.
الصحفي هناك لم يعد يركض خلف الخبر، بل خلف رغيف خبز يسدّ رمقه ويُبقيه حيًّا ليكتب. حصار خانق يفرضه الكيان الصهيوني، لا يكتفي بخنق الحياة، بل يسعى لإسكات الصوت الذي يفضحها.
هل تصمد الكلمة حين يُجبر صاحبها على الاختيار بين أن يكتب أو أن يأكل؟
لا تفوّت قراءة: الجوع ينهش أجساد الغزيّين.. أصوات من غزة تحكي كيف تحولت إلى سجن بلا غذاء؟

مراسل الجزيرة أنس الشريف: أترنح من الجوع
كتب أنس الشريف، مراسل الجزيرة في غزة، تدوينة موجعة قبل يومين، قال فيها: “أترنح من الجوع، ولست واثقًا إن كنت سأصحو غدًا”.
وأضاف المراسل الصحفي أنس الشريف قائلا: “أرتجف من الإرهاق، وأقاوم الإغماء الذي يلاحقني في كل لحظة.. نقف أمام الكاميرا نحاول أن نبدو صامدين، لكن الحقيقة أننا ننهار من الداخل”.
لم تكن تدوينته مجرد كلمات، بل صرخة خافتة من عمق الإنهاك. المراسل هنا لا يوثّق الحرب فقط، بل يعيشها بكل تفاصيلها.
أنس لم يكن وحده. صحفيون آخرون أعلنوا عن وعكات صحية، أو كتبوا عن خوفٍ ينهشهم بصمت كلما طال أمد الحصار.
بعضهم غاب عن الشاشة فجأة. لا بفعل رصاصة، بل بفعل الجوع، التوتر، وقلة الموارد التي تُنهك الأجساد قبل العدسات.
في غزة، لم يعد الصحفي يعيش حياة مختلفة عن المواطن. بل قد يكون أكثر انكشافًا، وأكثر عرضة للانهيار. الإبادة لا تقتل المدنيين فقط، بل تقتل من يروي قصتهم. فهل سنشهد قريبًا موت الحقيقة… جوعًا؟

لا تفوّت قراءة: دروس نتعلمها من اعتزال أنس جابر التنس مؤقتا.. حينما تتحول الملاعب الرياضية إلى ساحات ضغط نفسي
حكاية محمود أبو حصيرة في شوارع غزة المنكوبة: من فقدان العائلة إلى الجوع اليومي
لم يعد المصور الصحفي محمود أبو حصيرة يملك رفاهية التجول بكاميرته. لم يعد المكان آمنًا، ولم تعد الحياة كما كانت قبل الحرب.
قبل شهور، استُشهدت عائلة محمود تحت القصف. واليوم، يقترب الخطر منه شخصيًا. لم ينجُ من الوجع، بل أصبح جزءًا منه.
شوارع المدينة التي كانت تنبض بالحياة، تحوّلت إلى حقول للركام. الغبار يملأ الهواء، والألم يملأ الصور التي تلتقطها العدسات. وبعد 21 شهرًا من العدوان، فقد محمود أكثر من 15 كيلوجراما من وزنه. لم يعد الجسد يقوى، ولا الروح تطيق احتمالًا.
يعمل محمود في مؤسسة إعلامية محلية. يلاحق القصة صباحًا، ويقضي الليل في محاولة إصلاح معدات بالكاد تعمل. لكن معركته الأثقل ليست فقط مع القصف، بل مع الجوع. لا طعام كافٍ، ولا مياه نظيفة، ولا أفق للنجاة.
حالة محمود لا تختلف عن عشرات الصحفيين في غزة. يوثقون الحقيقة وهم على حافة الانهيار، تحت وطأة الخطر والحاجة معًا.
هل يمكن للصحفي أن يروي الحقيقة وهو جائع؟ وهل يمكن أن تبقى العدسة مفتوحة… حين تُغلق أمامها كل أبواب الحياة؟
لا تفوّت قراءة: في 18 يوليو 1989.. كيف دافع الشيخ زايد عن القضية الفلسطينية في المملكة المتحدة؟
حين يسقط حامل الكاميرا جوعًا: محمود أبو شلحة يختصر وجع الصحفيين في غزة

في غزة، حيث تُخنق الحياة ويُحاصر الضوء، يرقد المصور الصحفي محمود أبو شلحة على سرير المرض، بعيدًا عن الميدان الذي اعتاده.
تعرض أبو شلحة لوعكة صحية حادة. السبب ليس إصابة مباشرة، بل سوء تغذية قاسٍ، كما كشف الصحفي تامر المسحال. سنوات طويلة قضاها خلف الكاميرا. عيون الناس كانت ترى من خلاله، واليوم لا يكاد يقوى على الوقوف أو حمل العدسة.

لم تسجل الكاميرات سقوطه هذه المرة. لم يسمع أحد صوته وهو يتهاوى. إنه ضحية لمشهد لا يُبَث. محمود الذي نقل أنين غزة، يحتاج الآن أن يُذكر في دعائهم. يحتاج عملية طبية عاجلة ليعود حيًّا… قبل أن يعود مراسلًا.
ما يمرّ به أبو شلحة ليس حدثًا عابرًا، بل صورة مصغرة لمعاناة الإعلاميين في غزة: الجوع، الخطر، والخذلان الدولي المتواطئ.
لا تفوّت قراءة: من هم الدروز؟ ولماذا يُستهدفون في سوريا؟ دليل مبسّط لفهم قضية الطائفة الدرزية
مراسل قناة الحدث خضر الزعنون: صحفي جائع ينقل جوع أطفال ونساء لا صوت لهم
من قلب غزة المحاصرة، خرج صوت مراسل قناة الحدث الصحفي خضر الزعنون على الهواء، لا لينقل فقط، بل ليكون هو نفسه جزءًا من المأساة.
قالها ببساطة مدمّرة: “لم أتناول طعامًا منذ أمس، فقط قطعة بسكويت”. لم تكن شكوى، بل وصفًا لوضع بات اعتياديًا.
وصف المراسل مشاهد صادمة باتت روتينًا يوميًا: “أطفال ونساء ينهكهم الجوع، يسقط بعضهم من شدة التعب والإعياء”.
صوته المرتجف لم يكن ضعفًا، بل امتدادًا لمعاناةٍ يتقاسمها الجميع: صحفي جائع، ينقل جوع أطفال ونساء لا صوت لهم.
المراسل لم يكن يصف فقط، بل كان يحيا ما ينقله. يقف أمام الكاميرا كمن يحمل الألم لا المايكروفون.
غزة تلتهم أبناءها، مدنيين وصحفيين معًا. لم يعد هناك فرق بين من يروي القصة ومن يعيش تفاصيلها الثقيلة كل ساعة.
مراسلون AFP على حافة الجوع: صرخة وكالة الصحافة الفرنسية من قلب غزة

في عالم يتهاوى فيه كل شيء، أطلقت وكالة الصحافة الفرنسية (AFP) صرختها من على منصة “إكس” (تويتر سابقا): “مراسلونا في غزة قد يموتون جوعًا”.
هؤلاء ليسوا مجرد صحفيين، بل وجوه من نار تمشي على ركام. يركضون في العراء، لينقلوا الحقيقة قبل أن تُدفن مع الضحايا.
بدأ الصحفي بشار، البالغ من العمر 30 عاما مشواره مع الوكالة الإخبارية عام 2010 كمساعد ميداني، واليوم هو المصوّر الرئيسي للوكالة في غزة. في 19 يوليو كتب: “لم تعد لدي القوة للعمل… جسدي نحيف ولا أستطيع الاستمرار”.
منذ أكثر من عام، يعيش بشار وسط أنقاض منزله في مدينة غزة، بلا كهرباء، بلا أثاث، بلا ماء. أخوه الأكبر سقط أرضًا… من شدة الجوع.
تغادر خيمتها كل يوم لتغطي القصف. تقول أحلام: “لا أعلم إن كنت سأعود حيّة… لكنني أخرج، على أية حال”.
رواتب الوكالة بالكاد تصل، والوسيط المالي يقتطع 40%. لا سيارات، لا وقود… فقط خطوات ثقيلة على طرق مدمّرة. الوكالة الفرنسية، التي لم يسبق أن فقدت أحدًا من موظفيها جوعًا منذ تأسيسها عام 1944، أصبحت عاجزة أمام الحصار.
وقالت الوكالة في بيانها: “نراهم ينهارون. قوتهم تخبو. نداءاتهم تمزق القلب. لم يعودوا قادرين على إرسال الأخبار”.
وكتب بشار: “أشعر أنني مهزوم… أتمنى أن يساعدني ماكرون في الخروج من هذا الجحيم.” طلبه بسيط: النجاة فقط.
وتقول أحلام: “المقاومة ليست خيارًا… بل ضرورة.” تقاوم الجوع، القصف، والخذلان، فقط لتروي ما يحدث حين يصمت العالم.
لا تفوّت قراءة: لحلول ذكية وسريعة.. 6 تطبيقات لا غنى عنها في رحلتك نحو التداول والاستثمار
كاميرا مقابل كيس طحين: عندما يختار صحفي فلسطيني إطعام أطفاله على توثيق الحقيقة
في غزة المنهكة، كتب الصحفي بشير أبو الشعر منشورًا يهز القلب: مستعد لبيع كاميرته مقابل كيس طحين لأطفاله الجائعين.
لم تكن الكاميرا Canon D80 مجرد أداة، بل وسيلة حياة. واليوم، يعرضها مقابل ما يسد رمق العائلة. الصورة هنا تتكسر تحت وطأة الجوع.
ما قاله بشير لا يخصه وحده، بل يعكس صرخة مليونَي إنسان في غزة، يحاصرهم العدوان منذ 7 أكتوبر بلا غذاء أو دواء.
الأسعار ارتفعت بجنون. والتجار الجشعون استغلوا الأزمة. فصار الطحين ذهبًا، وصار الجوع سلاحًا جديدًا في يد القتَلة.
المشهد الأخير: أكثر من 225 صحفيًا قُتلوا في غزة منذ طوفان الأقصى
منذ 7 أكتوبر 2023، تحوّلت غزة إلى أخطر مكان في العالم للصحفيين. أكثر من 225 شهيدًا سقطوا تحت القصف.
إنها ليست أرقامًا عابرة، بل أرواحًا كانت تنقل الحقيقة. إنها حملة ممنهجة لإسكات كل ما يمكن أن يُقال أو يُرى.
الاحتلال لا يقصف فقط البيوت. بل يستهدف الكلمة، والصوت، والصورة. يسعى لمسح الذاكرة الحية التي تفضح جرائمه.
ومع استمرار منع الصحفيين الأجانب من دخول القطاع، لم يبقَ سوى الكاميرا الفلسطينية تقاوم وحدها… وتوثّق بينما تنزف.
كل صحفي في غزة بات مشروع شهيد. لكن رغم الخطر، يواصلون حمل العدسة كمن يحمل سلاحًا… ضد محو الحقيقة.