دونتك يا وجعي: مأساة مي زيادة بين العائلة والمجتمع والمثقفين
واحدة من أهم أديبات العرب، وأهم الكاتبات في الأدب النسوي خلال النصف الأول من القرن العشرين، أنشأت صالون أدبي في بيت والدها في القاهرة، ندوة الثلاثاء، واستمر لمدة عشرين سنة بيجمع ألمع الأسماء في سماء الأدب العربي؛ زي أحمد شوقي، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، ومصطفى صادق الرافعي، وملك حفني ناصف.
قال فيها العقاد: “..ووُهِبت ما هو أدلّ على القدرة من ملكة الحديث، وهي ملكة التوجيه، وإدارة الحديث بين مجلس المختلفين في الرأي والمزاج والثقافة والمقال”.
بين ماري ومي: العربية الأرثوذكسية المارونية والإنسانة
في مذكراتها المؤلمة (ليالي العصفورية.. تفاصيل مأساتي، من ربيع 1936 إلى خريف 1941)، بتقول الأديبة عن نفسها: “أنا مي؛ ماري إلياس زيادة. ولدت فى 1886، من خلطة دينية ومكانية غريبة، أم فلسطينية أرثوذكسية، نزهة معمر، من مرتفعات الجليل الساحرة وقناديلها العاشقة، وأب ماروني لبناني، إلياس زخور زيادة، من ضيعة شحتول، التي تزداد كل يوم ارتفاعًا لتقترب أكثر من سماء الله”.
اختارت اسم مي لأسباب تتعلق بحيثيات واقعها الاجتماعي والأدبي، وبتقول في واحدة من رسائلها للأديب اللبناني جبران خليل جبران، سنة 1921م: “أمضي مي بالعربية، وهو اختصار اسمي، ويتكون من الحرفين الأول والأخير من اسمي الحقيقي الذي هو ماري، وأمضي إيزيس كوبيا بالفرنجية، غير أن هذا لا اسمي ولا ذاك، إني وحيدة والدي، وإن تعددت ألقابي”.
حب وأدب وجنون: مي في مصحة العصفورية
في محاضرة ألقتها الأكاديمية اللبنانية لمياء مغنية أونلاين، بتنظيم من (مركز الدراسات العابرة للمناطق) في برلين، يوم 7 يناير 2021، حكت مغنية إن واحدة من الحضور في محاضرة سألتها عن “البنت اللي كان بيحبها جبران خليل جبران”. بتقول مغنية: “..نسيت اسم مي وتذكرت فقط أنها من أحبت جبران خليل جبران. فلماذا نعرف الكثير عن جبران، والقليل عن مي؟”.
كان عنوان المحاضرة “النسويات المجنونات: مي زيادة والنهضة وعلم الاكتئاب في لبنان ما بعد الحرب العالمية الأولى”. بدأت مغنية بتساؤل، ازاي وصل الأمر بمي زيادة في نهاية حياتها بالدخول للعصفورية (مستشفى الأمراض النفسية في لبنان)؟
بتوضح الباحثة إن مي مرت بتجارب قاسية ومتتالية؛ مات والدها بسكتة قلبية سنة 1928، وبعدها بسنتين مات جبران، وبعدين ماتت والدتها، انتهى الأمر بمي في حالة حزن شديد، وبتضيف مغنية: “وصف مثقفون جنونها بأنه حالة مبالغ فيها من الحداد”. دخلت مي في عزلة وظهرت كتاباتها كئيبة عن الموت والجنائز، وزاد الطين بلة طمع أولاد عمها في ميراثها الكبير.
بتقول مي عن ابن عمها الدكتور جوزيف زيادة: “ادعى أنه يساعدني ويخفف من مصيبتي؟ الحقيقة أنه هرع ليستكشف أعمالي وماليتي، ويقف على سرائر مصالحي وشؤوني فيستولي على كل شيء في حياتي، وكان أن خاطبني في تعيينه وكيلًا عني ليخدمني، فأجبت بأن لا أملاك لي في مصر وأن أعمالي المالية منظمة تنظيمًا لا يحوجني إلى مساعدة أحد”.
وبتضيف: “بعد هذا الكلام بيوم واحد جاءني مع رجلين من أنسبائي، يتبعهم باشكاتب محكمة عابدين ووكيله، وفتح الباشكاتب دفترًا كبيرًا جدًا، وسحب الدكتور زيادة قلم حبر وقدمه لي طالبًا مني أن أوقع في الدفتر، أي تأثير سيطر علي في تلك اللحظة؟ كيف لم أعجب لمجيء الباشكاتب دون أن أستدعيه؟ وكيف لم أرفض التوقيع؟ لست أدري”.
أضربت مي عن الطعام احتجاجًا، فادعى أولاد عمها إن عندها ميول انتحارية ودخلوها مصحة عقلية، بتحكي عن الحادثة الشنيعة دي في مذكراتها، فبتقول وصل لبيتها راجل وست لابسين أبيض، ومعاهم الدكتور جوزيف، واتناقش التلاتة حول المريضة مي، وهل استعدت تروح المصحة، وسمعت مي الحوار وانهار العالم حواليها.
قاومت مي بكل قوتها، لكن جوزيف ضربها وسحلها وحقنها الطبيب بالمورفين، صحيت لقت نفسها في غرفة مالهاش شبابيك، في (العصفورية).
كتبت مي: “شدت الممرضة على كل جسمي، ثم أدخلت ذراعي في جاكيت المجانين، وشدت الوثاق بقوة على ظهري، قبل أن تغرس في لحمي إبرة مورفين خشنة، كتلك التي تعطى للحيوانات الهائجة. كان الألم قاسيًا وعميقًا.. وزني منذ البارحة أصبح 28 كيلو، هذا ما قاله الطبيب وهو يحاول أن يثنيني عن جنوني، لكنني لستُ مجنونة أبدًا يا سيدي، من قال هذا عني هو المجنون، حتى لو كانت هذه الكلمات من كثرة تكراري لها أصبحت لا تعني شيئًا سأواصل ترديدها. صرخت حتى دُخت، الآلام كانت حادة بالخصوص الإطعام من الأنف، كدتُ أسحب النربيج، لولا أن سبقتني إليه مدام شوكي، وجمدت يدي على صدري. من شدة الصراخ، لم أنتبه للألم إلا عندما مست إبرة الحقنة العظم”.
فضلت في مستشفيات الأمراض العقلية لمدة عشرين شهر ونصف، خسرت فيها عيلتها ومكانتها كمفكرة وأديبة، وحقوقها القانونية كإنسان عاقل، وتحت ضغط شخصيات مهمة؛ زيّ ملك الأردن وأمين الريحاني، خرجت لمستشفى الجامعة الأمريكية، وهناك دخلت معارك قانونية لاستعادة حقوقها.
نصحها المحامين بإلقاء محاضرة تثبت فيها صحتها العقلية فكتبت “رسالة الأديب إلى أهله” علشان تثبت إنها ما زالت الأديبة المثقفة اللامعة، وبفضل الرسالة اترفع عنها الحجر والوصاية القانونية سنة 1938.
تشخيص مي بالاكتئاب اللا إرادي: سمعت عن المرض ده قبل كده؟
اتشخصت مي بالإكتئاب اللا إرادي، وبتتساءل الباحثة لمياء مغنية في محاضرتها إذا كنت سمعت عن المرض ده، وبتضيف: “إن كنتم لا تعرفونه لا بأس، فهو مرض لا وجود له، ولم يكن جذابًا مثل الهستيريا مثلًا، لكن يفترض أنه اكتئاب يظهر مع تقدم العمر، ويفضي إلى المرض العقلي، وهو من الأمراض التي تظهر في فترة محددة وكتعبير عن الزمن. مع الوقت أصبح الاكتئاب اللا إرادي مرتبطًا بما يعرف بسن اليأس عند النساء”.
اعتبر المجتمع العام والطبي في الوقت ده إن عقل الستات بيضعف عند سن اليأس، وزاد التصور ده مع ظهور الستات في الفضاء العام كأنداد للرجال، وبالتالي أصبح اللقاء مع الطب النفسي مش لقاء بين الطبيب والمريضة، ولكن لقاء مع عائلة ومجتمع وخبراء نفسيين هما أبناء المجتمع ده.
بتوضح مغنية إنه في عصر النهضة، عصر خروج المرأة للفضاء العام، أصبحت الستات “الخطيرات” زيّ مي عرضة للاتهام بالجنون في أي لحظة، علشان بيخرجوا عن قواعد المجتمع القديمة والحدود المرسومة اجتماعيًا للستات، وبيتهددوا بخسارة حقوقهم القانونية كبشر.
دونتك يا جوعي: مذكرات العصفورية
كل ما في جسد المرأة وأفكارها، حتى الحقيقة اللي كتبتها عن مأساتها، كانت تحت وصاية العائلة وحجر الرجال. فالمذكرات اللي كتبتها مي (ليالي العصفورية.. تفاصيل مأساتي)، واللي اعتمد عليها الكاتب الجزائري واسيني الأعرج في روايته عن قصة مأساتها (ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية)، كان محجور عليها لسبعين سنة بعد موتها.
لمدة تلات سنين تنقل الأعرج مع روز الخليل، المتخصصة في الدراسات النسوية العربية، بين بيروت ومصر ومونتريال والمكتبة الوطنية الفرنسية، لحد ما لقوها عند ست عجوزة في محافظة الجيزة في مصر، أخدتها من والدتها اللي كانت صديقة لوالدة مي، بعد ما نجحت في “انتزاعها من براثن عائلة زيادة في بيروت”.
بتقول مي في مذكراتها: “أخيرًا دونتك يا وجعي وهم قلبي.. حكيتُ عن الذين زجوا بي في دهاليز الجنون، وجعلوا من العصفورية سجنًا كبيرًا أموت فيه بصمت، ولا أحد يسمعني، حتى النفس الأخير وبلا قفازات، قلتُ بعض ما أحرقني وحولني رمادًا في ثانية واحدة. باسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل، يحق لي اليوم أن أتلاشى كما الغيمة، داخل حبي الذي شكلني وفي عمق وهمي الذي صنعته وصنعني أيضًا”.
بعد النجاة من الجنون: مرْيَمتُك أنا يا الله، فلماذا تخلّيت عني؟
بعد نجاتها من صراع العائلة والجنون رجعت مي لمصر، لكن لقت أصدقاءها من أدباء الزمان المشهورين، واللي كانت بتستضيفهم في صالونها الأدبي، وكانوا بيعشقوها؛ زيّ عباس العقاد، وطه حسين، وسلامة موسى، وأحمد لطفي السيد، ومصطفى صادق الرافعي، وداود بركات، بيبعدوا عنها واحد ورا التاني.
أيد الأصدقاء دول من المثقفين الإشاعات اللي انتشرت عن جنونها، وحاولوا بابتعادهم ده يمحوها نهائيًا من تاريخ الحركة الأدبية والثقافية في القرن العشرين. وفي واحدة من رسالاتها اللي بتكشف فيها عن معاناتها، وتخلي المثقفين المصريين عنها في محنتها، كتبت مي لصديقة مجهولة: “أضربت عن الطعام لأني اشتهيت الموت بعدما لاقيت الكثير من الاضطهاد والتعسف في مصر، وفي لبنان حيث لاقيت وسائل غريبة لحمل الناس على الاعتقاد بجنوني”.
أخيرًا: لما ظهرت عبقرية مي زيادة وقوتها في الفضاء العام، طاردتها تهمة الجنون، كواحدة من طرق مختلفة بتستخدم لكسر إرادة النساء القويات، تخلى عنها كل الرجال حتى المثقفين اللي ترددوا على صالونها وكتبوا فيها قصائد وروايات، واتمنوا نظرة حب منها قبل محنتها المريرة، وعلشان كده لازم الستات تعرف إن في الصراع من أجل حقوقهم مالهمش حليف مطلق غير ذاتهم ورفيقاتهم على نفس جبهة الصراع من النساء.
مي زيادة، خانها العالم في حياتها، فهل ننصرها بعد الموت صارخين بالحقيقة؟