أسرار البئر: لقائنا مع مخرج وثائقي “أم الدنيا” وحديث عن اكتشاف موقع دير المدينة

سنة 1906 اكتشف علماء المصريات قرية مصرية قديمة في موقع دير المدينة بالبر الغربي من الأقصر، بالقرب من وادي الملوك، وماعرفوش وقتها إن اكتشافهم هيتوثق كواحد من أعظم الكشوفات الأثرية في التاريخ.

موقع دير المدينة الأثري، تصوير الدكتور أحمد أبو بكر الحديدي

تتابعت الكشوفات في الموقع، وتفجرت من تحت رماله المعلومات عن سُكانه القدماء اللي كانوا وللمفاجأة، كلهم متعلمين، وسجلوا تفاصيل حياتهم اليومية بدقة تساعدنا على رسم لوحة شديدة الدقة عن المصري القديم في عالمه البسيط وعلاقاته العادية، بعيدًا عن بروباجندا الملوك.

إيه القرية دي؟ وإيه هو سر اختلافها؟

ملوك الدولة الحديثة وتغيير شكل الموت والعالم الأخر

كان قبل عصر الدولة الحديثة بيُدفن الملوك والملكات في أهرامات عملاقة، ولكن تكرار حوادث سرقة القبور خلال عصور الاضمحلال دفع العائلة الملكية للبحث عن طريقة دفن جديدة تحمي منازلهم الأبدية.

وبالتالي، ومن حوالي تلات ألاف و500 سنة، قرر الملك إمن حتب الأول ووالدته الملكة أحمس نفرتاري، وضع حجر الأساس لمشروع حداثي هيغير شكل الموت والعالم الأخر في مصر القديمة.

كان المشروع هو مدفن ملكي جديد في البر الغربي في طيبة (الأقصر حاليًا)، هيُعرف فيما بعد باسم وادي الملوك، وعلى مسافة قريبة منه تم تأسيس مجمع سكني يعيش فيه كل شخص هيشتغل في الوادي؛ من مهندسين ونحاتين ورسامين وكُتاب وعمال، مع أسرهم.

موقع دير المدينة الأثري، تصوير الدكتور أحمد أبو بكر الحديدي

أشار السكان لقريتهم بلفظ “با-ديمي”، ومعناه “القرية” بالمصرية القديمة، أما في المراسلات الرسمية فكان يٌشار إليها باسم سِت-ماعت، أو مكان الحقيقة، وكان بيُشار لسكانها باسم “إين سجم-عش إم ست ماعت” أي “الخُدام في مكان الحقيقة”، في إشارة لحساسية المهمة الموكلين بها.

محمود رشاد مخرج سلسلة أم الدنيا الوثائقية بيكلمنا عن دير المدينة

اتكلمنا مع المخرج المصري محمود رشاد، اللي أخرج السلسلة الوثائقية الرائعة “أم الدنيا”، وسألناه ليه اتسمى موقع دير المدينة بالاسم ده، وقال: “دير المدينة هو اسم حديث ظهر خلال العصر القبطي بعد ما اتحول المعبد اللي في القرية المصرية القديمة لدير مسيحي وأصبح اسمه دير المدينة”.

كان الموقع خلال عصر الدولة الحديثة مجمع سكني مسور وله بوابة وحراس، وعنده اكتفاء ذاتي من كل شئ، فكان فيه مخابز وأماكن لغسل الملابس وتربية المواشي..إلخ.

وعاشت فيه أجيال مختلفة من عُمال دير المدينة لمدة 600 سنة، وبيقول رشاد: “كان سكان القرية بيورثوا ممتلكاتهم وبيوتهم ومهنهم لأولادهم، وعلشان كده عندنا سلالات من فنانين عاشوا في نفس البيوت في دير المدينة”.

مدخل المعبد في موقع دير المدينة الأثري، تصوير الدكتور أحمد أبو بكر الحديدي

ومازال أساس بيوت القرية قائم لحد النهارده، وبعضها لسه باقي من جدرانها متر واحد، كافي إننا نقدر نحدد تقسيمة البيوت والشوارع، ونعرف كل غرفة في كل بيت كانت غرفة نوم ولا غرفة معيشة ولا مطبخ.

مع توالي الأجيال، اتجه السكان لدفن موتاهم في الجبال المحيطة بالقرية، لحد ما أصبحت الجبال دي من أهم مواقع الدفن في مصر القديمة.

بيقول رشاد: “كانت مقابر أهل دير المدينة، على بساطتها، رائعة الجمال لإن أصحابها أصلًا فنانين، وكانت مختلفة تمامًا عن المقابر الملكية من حيث بروز الحس العائلي والإنساني فيها أكثر من مناظر القبور الملكية”.

حكايات الشعب في قبور الفنانين

من مقبرة الكاتب سن-نجم، تصوير الدكتور أحمد أبو بكر الحديدي

من أبرز الشخصيات اللي نعرفهم عن قرب من أهل دير المدينة، هو السيد خع وزوجته السيدة ميريت، وبيقول رشاد: “بدأ خع حياته كعامل بسيط جدًا في وادي الملوك، ولكنه اترقى وصعد في السلم الوظيفي حتى أصبح المهندس الأول الملكي للملك أمنحتب التاني”.

وبيضيف: “للأسف مقبرتهم مكانش فيها أي رسومات وكل محتوياتها موجودة حاليًا في متحف تيورين في إيطاليا، وتعتبر محتوياتها من أجمل المجموعات الأثرية في مصر القديمة، لإنها بتخليك تحس إنك عايش وسطهم”.

من مقبرة الكاتب سن-نجم، تصوير الدكتور أحمد أبو بكر الحديدي

اكتشفنا في محتويات مقبرة خع مجموعة من ملابسه ومنقوش عليها أول حرفين من أسمه، وبيوضح رشاد: “علشان لما تروح المغسلة ماتضعش”.

من مقبرة الكاتب سن-نجم

أما مقبرة الكاتب سن-جم وزوجته اي-ست -وفرت، اللي كانت كاهنة في المعبد الخاص بالقرية، فمعظم محتوياتها موجودة في متحف الحضارة في القاهرة، وبنشوف على جدران المقبرة مجموعة بديعة من الرسومات اللي بتصور حياة الزوجين.

بيضيف رشاد: “احنا عارفين مين كان ساكن في البيوت دي، وعارفين مقابرهم فين، وكانوا بيشتغلوا إيه، وكل حاجة عنهم من خلال الكتابات اللي لقيناها في البئر”.

أسرار البئر: قمامة بعضٍ عند بعضٍ كنوز

البئر حيث أكتشفت كتابات أهل موقع دير المدينة الأثري، تصوير الدكتور أحمد أبو بكر الحديدي

موقع دير المدينة بعيد عن وادي النيل، وبالتالي كان بيعتمد أهله على نقل الماء في أواني ضخمة وتخزينها، وعلشان يحلوا المشكلة دي، بيقول رشاد: “نعتقد إنهم حاولوا يحفروا بئر على عمق 60 متر، ولكن ما طلعتش مياه، وأصبحت الحفرة مكب نفايات، بيرمي فيه أهل القرية اللي مش محتاجينه”.

ولإنهم كانوا فنانين ومهندسين متعلمين، كان جزء كبير من نفايتهم عبارة عن كتابات بتحكي تفاصيل حياتهم، واللي أصبحت واحدة من أعظم اكتشافات علم المصريات، وبيقول رشاد: “لدرجة إن بعض علماء المصريات بيعرفوا سكان البيوت من خط ايديهم”.

كان البئر مليء بكتابات من البردي وكسرات الفخار، لحد ما أصبح سجل للحياة اليومية. بعض الكتابات كانت مراسلات رسمية زيّ ملفات قضايا في المحاكم أو عقود زواج وطلاق، والبعض الآخر كان حاجات بسيطة، وبيقول رشاد: “من الكتابات دي قائمة من الهدايا اللي أهداها الضيوف لواحد من السكان، وسجلها علشان يقدر يرددها بنفس قيمتها”.

بعض الكتابات كانت رسائل حب أو نكت أو ناس بتشتكي لبعض من ناس تانين، وحاجات كتير بسيطة، عن ناس بسيطة ضحكت وفرحت وعاشت أيام سعيدة وأيام أخرى تعيسة.

آخر كلمة: ماتفوتوش قراءة: جبانة الحيوانات المقدسة في سقارة تكشف افتتان المصريين القدماء برفاقهم من القطط

تعليقات
Loading...