مدينة جنين: شوكة مقاومة ما زالت تؤرق الكيان الصهيوني وتاريخ عريق في في النضال الفلسطيني

في قلب الضفة الغربية، وعلى أرضٍ ضاربة بجذورها في تاريخ فلسطين العريق، تقبع مدينة جنين، تلك الشوكة المقاومة التي ما تزال تؤرق الكيان الصهيوني.

لطالما كانت جنين، وخاصة مخيمها الذي أصبح رمزًا للصمود، نقطة ارتكاز لمعارك التاريخ الفلسطيني وأيقونة للمقاومة التي لا تنكسر.

وعلى مر السنين، حاول الاحتلال الإسرائيلي كسر شوكتها، لكن المدينة كانت دائمًا تنتصر، تصمد وتكتب فصولًا جديدة من النضال في كل مرة.

وباتت جنين اليوم ليست مجرد مدينة، بل معقل مقاومة تتردد صداها في أرجاء العالم، وتجسد إرادة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.

ما الذي جعلها تحتل هذا الموقع الاستراتيجي على خارطة المقاومة؟ وكيف أصبحت شوكة تزعج الاحتلال في كل لحظة؟ هذا هو سر جنين، السر الذي لا يمكن تجاهله.

لا تفوّت قراءة: “طوفان” عودة الغزويين إلى شمال غزة: 10 مشاهد إنسانية لا تُنسى خطفت قلوبنا

مدينة جنين في عصور قديمة

مدينة جنين: مثلث رعب منذ فجر التاريخ

تعد مدينة جنين، الواقعة في قلب فلسطين، واحدة من أقدم المدن التي نشأت في العهد الكنعاني.

كانت تعرف باسم “عين جيم” منذ نحو 2450 قبل الميلاد، مما يجعلها موقعًا استراتيجيًا تعرض للغزو من الشمال والجنوب.

وفي القرن السابع الميلادي، دخل المسلمون المدينة وسكنت فيها قبائل عربية، وسميت جنين نسبةً إلى الجنائن المحيطة بها، ليبدأ تاريخها كمركز حضاري ومعقل للقتال.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت جنين مسرحًا للعديد من المعارك الكبرى رغم صغرها النسبي.

قاومت المدينة قوات نابليون وألحقت بالجيش العثماني خسائر فادحة.

وخلال الحروب الصليبية، سقطت جنين، ولكن معركة حطين عام 1187 شهدت دخول المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي إليها، لتستعيد مكانتها كمركز مقاوم.

وفي فترة الانتداب البريطاني، شهدت جنين العديد من الأحداث، أبرزها استشهاد الشيخ عز الدين القسام عام 1935، الذي أصبح رمزًا للثورة الفلسطينية، وأُطلق اسم “كتائب القسام” على الجناح المسلح لحركة حماس تكريمًا له.

ومع اندلاع الثورة الكبرى عام 1936، لعبت جنين دورًا بارزًا في معاركها ضد الإنجليز والمستعمرات اليهودية، لتستمر المدينة في كتابة تاريخ طويل من المقاومة.

ثم جاء عام 1948، ليكون الحدث الأعظم في تاريخ فلسطين، ويكرس جنين كنموذج للمقاومة التي لا تُهزم أمام الاحتلال.

عام النكبة .. تاريخ لن ينساه العالم

عام النكبة ليس مجرد حدث تاريخي، بل كارثة مستمرة أثرت بشكل عميق على الشعب الفلسطيني والعربي، إذ امتدت تداعياتها من منتصف عام 1947 حتى منتصف عام 1949، فترة مليئة بالرعب والإرهاب، حيث تحطم الوطن وتشرد الشعب وتبدد الأمل.

وفي تلك الحقبة، لم يتوقف أهل جنين عن الدفاع عن أراضيهم بشراسة، رغم القتل الجماعي الذي مارسته العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين، واحتلالهم للمنازل في نكبة 1948.

مع نهاية عام 1949، أصبحت جنين تحت حكم الإدارة الأردنية الهاشمية، لتظل تحت هذا الحكم حتى عام 1967، حينما احتلتها إسرائيل.

واستمرت جنين خاضعة للاحتلال حتى عام 1995، حينما انتقلت إلى إدارة السلطة الفلسطينية وأصبحت مركزًا لمحافظة جنين.

وفي عام 1953، جرى تأسيس مخيم جنين داخل حدود بلدية جنين، ليكون ملاذًا للفلسطينيين الذين نزحوا جراء الحرب وتداعيات إعلان قيام دولة إسرائيل.

لا تفوّت قراءة: لولا مصر ما تحققت الهدنة: كيف ساهمت القاهرة في وقف إطلاق النار في غزة؟

بداية حقبة أخرى من المقاومة في جنين

بعد عام 1948، كانت جنين المدينة الوحيدة في فلسطين التي سقطت وأُعيد تحريرها، مما منحها مكانة استثنائية في تاريخ المقاومة الفلسطينية.

ومع مرور الوقت، استمر الحلم بالمقاومة في جنين، ليصبح المخيم بعد عام 1965 مركزًا لتشكيل أولى خلايا الثورة الفلسطينية، حيث اختارته الفصائل الفلسطينية نقطة انطلاق للعمل المقاوم.

أصبح مخيم جنين ملاذًا للمطلوبين للاحتلال، مما جعله هدفًا دائمًا للاقتحامات والعمليات العسكرية الإسرائيلية.

ومن بين أبرز هذه العمليات التي لا تُنسى، كان اجتياح جنين عام 2002، الذي شكل ضربة قاسية للاحتلال، وأثبت صمود المدينة أمام آلة الحرب.

اجتياح مخيم جنين عام 2002 .. جنين غراد

عام 2002 كان نقطة تحول في تاريخ المقاومة في جنين، حيث اندلعت أكبر معركة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، في عملية نفذها رئيس الوزراء الإسرائيلي آرئيل شارون عقب تصاعد انتفاضة الأقصى.

أدرك “شارون” أن مخيم جنين يشكل تهديدًا كبيرًا، واصفًا إياه بـ “القنبلة الموقوتة”.

بدأت القوات الإسرائيلية في تطويق مدينة جنين، ثم حصار المخيم لمدة 10 أيام، قطع خلالها عنها الكهرباء والماء، واستخدمت المدنيين دروعًا بشرية في تصعيد غير مسبوق.

كما نفذ الاحتلال عمليات قتل عشوائية ومنع المرضى من الوصول للمستشفى.

شهدت شوارع المخيم عمليات إعدام ميدانية، وعثر على جثث متفحمة وأخرى متعفنة تحت الأنقاض.

لكن رغم كل ذلك، قاومت جنين ومخيمها ببسالة، حيث قُتل 40 جنديًا إسرائيليًا وأصيب 140 آخرون في كمين محكم من قبل المقاومين.

هذا الاجتياح أطلق عليه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات “جنين غراد”، في إشارة إلى حصار مدينة ستالينغراد الروسية في الحرب العالمية الثانية التي صمدت ضد الحصار الألماني.

منذ ذلك الحين، استمرت جنين والمخيم في المشاركة الفعالة في عمليات المقاومة ضد الاحتلال، حيث بقيت صامدة في وجه أي محاولة للعدوان.

لا تفوّت قراءة: أم كلثوم: مسحت بمنديلها الحريري دموع النكسة وساندت المقاومة بصوتها العذب

أبرز المعالم التاريخية في مدينة جنين

تعد مدينة جنين واحدة من أقدم وأهم المدن الفلسطينية، حيث تضم العديد من المعالم التاريخية والأثرية التي تعكس تاريخها العريق وأهميتها الاستراتيجية والثقافية. من أبرز هذه المعالم:

الجامع الكبير في مدينة جنين

الجامع الكبير (فاطمة خاتون)

يعد الجامع الكبير (فاطمة خاتون) من أبرز المعالم التاريخية والدينية في مدينة جنين، ويقع في قلب المدينة ليكون شاهدًا على تاريخ طويل من المقاومة والتضحية.

جرى بناؤه على يد السيدة فاطمة خاتون، ابنة السلطان محمد الأشرف بن قانصوه الغوري، آخر سلاطين المماليك، ويعود تاريخه إلى الحقبة المملوكية.

ويقام المسجد على أنقاض مسجد قديم يعود إلى عصر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي بناه خلال زيارته لفلسطين لاستلام مفاتيح القدس بعد فتحها.

ويتمتع المسجد بتصميم معماري مملوكي رائع ويحتفظ ببعض الآثار المملوكية التي تعكس عراقة تلك الحقبة.

بالإضافة إلى الجامع، قامت فاطمة خاتون ببناء مدرسة تحمل اسمها في الجهة المقابلة للمسجد، والتي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، ما يضيف للمدينة بعدًا ثقافيًا وتعليميًا مهمًا.

ويعد الجامع الكبير نقطة محورية للمصلين في جنين، ومركزًا هامًا في حياة المدينة الدينية والثقافية.

مدرسة فاطمة خاتون

تقع مدرسة فاطمة خاتون في قلب مدينة جنين، شرق المسجد الكبير، وهي واحدة من المعالم التاريخية الهامة في المدينة.

وتأسست في 1882 كسرايا عثمانية، وكان الهدف منها أن تكون مقرًا للحاكم العثماني، ثم تحولت إلى بلدية جنين.

وفي عام 1955، افتتحت المدرسة لأول مرة تحت اسم مدرسة حطين للبنين.

وفي عام 1978 جرى تغيير اسمها إلى مدرسة فاطمة خاتون تكريمًا لابنة السلطان قانصوه الغوري.

وتتميز المدرسة بتصميمها المعماري الفريد، حيث يظهر الطراز المعماري العثماني في العقود وسقفها المصنوع من الخشب والقرميد.

كما يزين المبنى ساحة واسعة في الوسط على الطراز الشامي القديم.

وهذا يجعلها ليست فقط مركزًا تعليميًا، بل أيضًا أحد الأماكن التي تعكس تاريخ المدينة وحضارتها.

قصور آل عبد الهادي

تقع قصور آل عبد الهادي في بلدة عرابة وتعد من أبرز المعالم التاريخية في منطقة جنين.

وتضم البلدة مجموعة من 13 قصرًا تاريخيًا كانت تمثل مراكز نفوذ العائلة الإقطاعية آل عبد الهادي خلال القرن التاسع عشر.

وتعكس هذه القصور الوجاهة والثراء الذي تمتعت به العائلة.

إذ كانت مسؤولة عن جمع الضرائب في المنطقة، مما منحها مكانة اجتماعية رفيعة.

وجرى بناء هذه القصور بأسلوب معماري يعكس القوة والثراء، وكانت تمثل مركزًا للنفوذ السياسي والاقتصادي في تلك الفترة.

وكانت حياة نساء العائلة مختلفة عن حياة نساء الفلاحين، حيث لم يكن لهن دور في الزراعة بل عشن في خصوصية داخل القصور.

وكانت هذه القصور رمزًا للطبقة العليا، وتعكس الفجوة الاجتماعية بين العائلات الإقطاعية وبقية فئات المجتمع في ذلك الوقت.

نفق بلعمة

نفق بلعمة هو واحد من أبرز المواقع الأثرية في فلسطين.

جرى اكتشافه عام 1996 خلال عمليات توسيع الشوارع في منطقة خربة بلعمة الأثرية.

ويتميز النفق بتصميمه المتعرج ويبلغ طوله 115 مترًا، مما يجعله أطول نفق مائي في فلسطين.

ويعود تاريخ إنشاء النفق إلى العصر البرونزي، حوالي 3000 قبل الميلاد، ويعتبر شاهدًا على براعة الهندسة المعمارية في تلك الفترة.

وجرى فتح النفق أمام الزوار في عام 2005 ليصبح أحد المواقع الأثرية المهمة التي تجذب السياح والمهتمين بتاريخ فلسطين.

ويعد نفق بلعمة مثالًا على طرق الري المبتكرة التي استخدمها السكان في العصور القديمة لضمان توفر المياه.

لا تفوّت قراءة: مقاهي مصرية تاريخية عليك زيارتها في “الويك إند”: رحلة بين التاريخ والثرثرة

تعليقات
Loading...