ثرثرة فنية: أن تصنع بودكاست معرفي عبر دردشة بين صديقين
منذ ظهور صناعة “البودكاست” بالعالم العربي، وهو يعامل كوسيلة يمكن تلقي منها المعرفة والمعلومات السريعة التي تعتمد بالأساس على أن الصناعة نفسها قائمة على عرض معلومات سريعة تخص مواضيع بعينها، ولكن مع “ثرثرة فنية” ثمة شيء مختلف، أنت لا تهتم بعرض هذه المعلومات في موضوع بعينه، بل قد يبدأ الحديث عن الفن ثم يتطرق إلى الاجتماع والسياسة وربما الرياضة، وقد تسمع مقاطعات بين عارضي هذا البودكاست حتى على الحقيقة هما يتحدثان كأنها ثرثرة لشخص واحد له لسانان، ولكن هذه الثرثرة تبني عالمًا كاملًا عبر بودكاست اسمه “ثرثرة فنية” لعارضيه السيدان “أيمن الزرقاني” و”آدم ميكوي”.
السيد الأول من مواليد القاهرة وخريج فنون جميلة قسم التصوير الزيتي وعمل رسام بمجال الدعاية والإعلان حتى 2009 ثم تفرغ بعدها للعمل بشكل حر كرسام في مجال القصص المصورة، والسيد الثاني ابن من أبناء الإسكندرية ولكن بالرغم من ذلك لا تظهر اللهجة السكندرية عندما يتحدث معك، وهو خريج “آداب لغة فرنسية” وله باع في عالم الكتابة لبرامج مختلفة وعمل على إعداد أفلام وثائقية بالعربية وبالفرنسية، ويعمل كبروديسور بقناة “الحرة” الآن، والسيدان أحدهم يقطع حديث الثاني ليلهمه بشيء ما أو ليحلقوا سويًا حول موضوعًا ما لم يكن في الحسبان تناوله.
بين الكليشيه والأندريتيد
عادة يتنقل كيليشه من فم إلى فم، ومن جيل إلى جيل، ومن الأب إلى الابن دون الإدراك بأنه كيليشه، وبالرغم من ظل يستمر ترديده على أنه حقيقة، ومن هنا يندر التعامل والاشتباك معه، لعدم جاهزية الناس لتلقي الحقيقية. ومن الأشياء التي يمكن التعبير عنها بأنها تمثل هذا هي عبارة أن “سعيد صالح أكثر موهبة من عادل إمام” و أنه ظلم لأن “الزعيم” كان له علاقة وطيدة بالسُلطة وهذا طبعًا كلام منبعه صدى تركته وسائل التواصل الاجتماعي أة فكرة رمسنة الأشياء تبعًا لفكر أو إيديولوجية بعينها، ولكن بدت هذه الفكرة مثيرة لدى “أيمن وآدم” لتكون بداية بودكاست “ثرثرة فنية” عبارة عن حلقة بعنوان “هل سعيد صالح أكثر موهبة من عادل إمام؟” معلنين بأن على المتلقي “أن يتفسخ”، ولكن خلف الكواليس طرح “الزرقاني ومكيوي” الفكرة كسؤال، نظرًا لأنه حفز وجود أسئلة أخرى لديهم، ويقولون في هذا الصدد الثنائي:” لو سألت أي شخص تعرفه سؤال مثل أذكر عشرة أفلام لسعيد صالح؟ سيذكر خمسة منهم ثلاثة على الأقل كان يشاركه عادل إمام فيها، أي أن الموضوع أسطوري ووهمي بالأساس”.
ومن هنا بدا أن الموضوع يستحق التناول بالنسبة لهما، ولو حتى عبر تحليل الأمر على عدة مستويات مختلفة تقع بين تحليل الأسطورة وأسباب نشأتها، وتبدأ حلقتي محو الأسطورة هذه “بمانشيت فيه ألقى القبض على سعيد صالح وصبري عبدالمنعم وبحوزتهما حشيش” وربما لم يكن هذا مقصودًا ولكن بدأت حلقتي “محو الأسطورة” هكذا ولكن مع البداية يشير “الزرقاني ومكيوي” إلى ما قدمه “سعيد صالح” عبر تاريخه بأكمله من لحظة البداية إلى لحظة النهاية وربما سيسنتنج البعض فكرة صناعة الأسطورة المتخيلة.
استطاع “الزرقاني ومكيوي” فعل هذا بنجاح شديد ولكن ليس من خلال فكرة أنهم يملكون معلومات ربما تغيب عن البعض أو يغيبها البعض عمدًا ولكن عبر تحليل أو “تفسخ” فني يتقاطع شخصية “سعيد” نفسه، هذا التحليل تناول مشوار الأثنين سعيد صالح وعادل إمام، ولكن لم يستمر مسار البودكاست على هذا المنوال.
لم يستمر البودكاست على منوال محو الأسطورة أو استنتاج أن هناك أسطورة، بل تأتي حلقات أخرى حول ممثلين هما أندريتيد بالفعل بناءً على مشوار حقيقي قدموه دون أي رومانسية في تناولهم فمثلًا تجد حلقة حول “أحمد بدير vs نجاح الموجي” أو عن بداياتهم ومشوارهم وعن كونهم أندريتيد ولكن لأنك في حضرة ثرثرة في قد تجد ما تخلقه هذه الثرثرة حول أسباب جديدة حول كون الأثنين أندريتيد، أو تجد حلقة عن “مصطفى قمر” بناءً على أن السيد “مكيوي” إسكندراني” مثلي، يقول “مكيوي” عن ذلك:” مصطفى قمر الأقرب لجيلنا، ولكن أنا -تحديدا- كان دايمًا بشوف صوره متعلقة في أستوديوهات “الباشا” التابعة لعمه، وكمان بالنسبة لأسباب عمل حلقة عنه جاية منه إنه متوافر أكتر على الشاشة بيمثل، وحاضر باستمرار عن مجايليه” ويعزز كلامه “الزرقاني”:” الحقيقة ميلنا إلى مصطفى قمر رغبة منا في إظهار صورة “قمر” مختلفة عن الصورة التي يراه بها الأجيال الجديدة، ولكن مع ظهور “حميد الشاعري” يظهر (قمر) بصوت مختلف ولكن أيضًا بإنتاجه ألحان مختلفة لكل نجوم جيله وتجد أن أشهر أغنية لأي منهم هي من تلحينه، أما على مستوى الغناء تجده يتعاون مع شاعر مختلف تمامًا مثل (سامح العجمي) وظهرت المنافسة بين دياب وقمر من هنا، ولكن قمر كان النجم الأوحد في بداية التسعينات حتى عن الهضبة، وفي منتصف التسعينات ابتدت رحلة هبوط سريع إلى لحظة بداية الألفينات بظهوره في السينما وظهور فيديوهات كليب مميزة لأغانيه”، ولكن الزرقاني يختلف مع مكيوي حول “عمرو دياب” ويقول:” “عمرو دياب” استطاع الوقوف أمام “علي حميدة” وإللي قدر يبلع الدنيا كلها بأغنية “لولاكي” ولكن المثير أن دياب في نهاية الثمانينات كان أخر الصف ولكن في بداية التسعينات استطاع أن يكون رقم “واحد” بأغنية(ميال) وهي عباية “حميد الشاعري”.
ولكن لا يستمر الأمر هكذا بداية من الموسم الثاني، بداية من الموسم الثاني يلفت “الزرقاني ومكيوي” إلى أسطورة حقيقية وهي الكوميديان “محمد نجم” ولكن يظل هناك تساؤل يردد مستمعي البرنامج حول مصدر هذه المعلومات التي تُلقى عليهم بغزارة، لذا، ربما يجب الالتفات إلى أساطير في الظل.
نخبوية الموضوع ونخبوية المتلقين
عادة ما يغلب على محتوى “البودكاست العربي” تحديد موضوع وصناعة بودكاست عنه، فمثلًا تجد بودكاست عن الاقتصاد عن الأزمات النفسية أو عن الآداب، ولكن أن تتقاطع عدة أشياء مع بعضها البعض تساهم في إنتاج محتوى معرفي غير ممل هو ما استطاعت “ثرثرة فنية” فرضه فهو ليس بودكاست يضيف لك عدد من المعلومات عن موضوع بعينه، الأمر مختلف تمامًا أنت تسمع إلى “الزرقاني ومكيوي” وتجد نفسك أمام محتوى فني يتقاطع مع صناعة السينما ومع السياسة وحتى مع الاجتماع، محتوى مستقل لا يفرض عليه أي شيء، ولكن يظل سؤال من أين أتوا بهذه المعلومات؟ الإجابة يقولها “الزرقاني” ويعززها “مكيوي” يقول “الزرقاني”:” أنا أبويا كان يميني ولكن بيحب الفنون وآدم أبوه يساري وكان بيحب الفنون، أحنا بالتأكيد مش شخص واحد ولكن على الأقل الاهتمامات نفسها واحدة، لكن كل واحد بيشوف بشكل محتلف عن التاني، آدم أحيانًا بيقول أذكر لي عشرة أفلام ظهر فيها الظباط لابسين أبيض فأنا بتحمس لده” وربما ما قاله “الزرقاني” وعززه “مكيوي” هو ما يؤكد على أن سبب التفاعل مع البودكاست هو صدق الصوت وعدم تعاليهم، السخرية التي يظهرها الأثنين حتى هي حقيقية، كل شيء معمول كما في حالته الخام، ربما إرجاع الموضوع إلى النشأة هي إلقاء الضوء على أبطال الظل وهما الآباء ولكن بالعودة إلى أبطال الظل علينا نعود إلى المحتوى الذي تم صناعته عن “محمد نجم”، لذا كسرت الثرثرة فكرة نخبوية الموضوع وبالتبعية نخبوية المتلقين.
أساطير في الظل
ربما ما نجح فيه “الزرقاني ومكيوي” هو كسر التتابع الزمني الذي يريده المشاهد بداية من الموسم الأول إلى الموسم الثاني، هناك قفزات تفاجىء المتلقى سواء على مستوى التتابع الزمني في الحلقة نفسها أو على تتابع الحلقات، ولكن يظهر هذا بوضوح في حلقات “نجم” التي تلتفت فيها إلى موهبة جبارة ولكنهم لا يكتفوا بعرض “نجم” كونها موهبة جبارة أو مهدرة بل يخلقوا عالمًا كاملًا من شخصيته لا تعرف إذا كانوا يحبوه أم يكرهوه ولكن ما تم عرضه عن “نجم” ربما هو أفضل ما تناول هذه الشخصية الفنية سواء على مستوى الإشادة أو الذم، اللعبة كلها تكمن في “ثرثرة فنية” على أهمية أن تخلق مساحة لتناول مختلف لكل شيء حتى ولو أسطورة يعلم البعض مصدرها، لذا، نحفز المثرثرين على الالتزام بالقفزات التي يفعلونها وعلى العناية بهذا النجاح.