ذكريات سوريا في القلب وحاجات بتميزها
النهارده، 17 أبريل، هو عيد الجلاء في سوريا، وفي اليوم ده سنة 1946 خرج آخر جندي فرنسي من الأراضي السورية، بعد احتلال استمر أكتر من 25 سنة، وبعد نضالات وانتفاضات شعبية جبارة من الشعب السوري. نضال وشجاعة ووطنية نقدر نشوفهم النهارده في كل مواطن سوري وهو بيقاوم حرب مأساوية ومُدمرة ليه ولأهله ولبلده.. حرب سرقت أرواح وأحلام كتير.. كابوس نفسنا نشوفه بينتهي.
وبما إني عشت 10 سنين في سوريا، وتحديدًا في بلودان، وقضيت طفولتي كلها هناك، في حتة من قلبي هتفضل ليها، وبمناسبة عيد الجلاء، حبيت أشارك معاكم حاجات مفتقداها وبحبها في البلد دي.. حاجات للأسف السوريين نفسهم خسروا بعضها بسبب الحرب الحالية.
بتبدأ قصة يوم الجلاء بإن سوريا كانت جزء من الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن ال16 ولحد الحرب العالمية الأولى اللي انتهيت بهزيمة العثمانيين؛ وبالتالي تم تقسيم أراضي الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط على فرنسا وبريطانيا، وبدأ انتداب فرنسا على سوريا سنة 1920، واللي مع الوقت اتحول لاحتلال بسبب الإجراءات الاقتصادية والسياسية والعسكرية القاسية اللي اتبعها الفرنسيين. في سنة 1941، خلال الحرب العالمية التانية، وقعت باريس تحت سيطرة ألمانيا، اللي بقيت هي المُسيطرة على سوريا لحد ما قدرت فرنسا تسترجعها بمساعدة بريطانيا. واستمر الصراع ما بين القوات الفرنسية والشعب السوري 26 سنة كاملين، لحد خروج آخر جندي فرنسي سنة 1946.
كرم الناس وحبهم البسيط والملموس
بالرغم إن أنا وعيلتي الصغيرة، اللي بتتكون من بابا وماما وأخويا، كنا عايشين لوحدنا في سوريا بدون أي أفراد تانيين من العيلة، قليل ما كنا بنحس إننا لوحدنا. افتكر إن في أوقات الأعياد والاحتفالات، كنا دايمًا بنكون معزومين في بيت حد؛ بيت “أم سليم” أو “أم فؤاد” أو “أم رجا”، اللي كانوا بيحسسونا إننا جزء من عيلتهم الكبيرة، مش ناس غريبة عنهم، دول حتى كانوا بيهتموا إنهم يعملوا ليا الأكلات اللي بحبها، زيّ الفريكة وورق العنب. وكمان في الأوقات الصعبة ووقت ما بابا وماما ماكانوش موجودين في البيت بسبب ظروف مرض أو وفاة، بيت “أم سليم” كان بيحتويني أنا وأخويا وماكناش بنحس إننا عبء عليهم. “أم سليم” مرتبطة في عقلي وذكرياتي بجملة “تكرم عينك”، وأقرب حاجة بالمصري “أنت تأمر”، جملة بلمس فيها العطاء اللي بسخاء ومحبة، وبكلمات تانية، عمري ما حسيت إني تقيلة عليها.
الشعب السوري هو شعب كريم بطبعه، وكنا بنشوف ده في العزومات اللي في البيوت أو لما كانت ناس بتعزمنا في المطاعم بتاعتهم، ويمكن المكان المفضل لينا كعيلة ولسوريين كتير كان مطعم “مورا”، مش بس علشان أكله السوري المميز اللي فعلًا هتاكل صوابعك وراه، لكن علشان صاحب المطعم “أبو أسعد” كان هو المثال الأعلى والأكبر في الكرم والعطاء اللي من غير حدود أو مقابل. واحدة من جمل “أبو أسعد” الشهيرة كانت “لاقيني ولا تطعميني”، وده لإنه كان شايف إن المقابلة البشوشة للناس اللي جاية المطعم هي في الحقيقة أهم من الأكل، وبكده مطعم مورا كان مكان مريح ومفتوح لكل الناس وكمان الأكل كان يجنن. وبعد وفاته، اكتشفوا إن عائلات كتير محتاجة كان هو اللي بيعولها من غير ما حد يعرف، عربيته كانت بتبقى مليانة بعلب الحلويات اللي كان بيوزعها عليهم.
التجمعات العائلية مابقتش زي الأول في سوريا، وخصوصًا في بلودان، وده لإن العائلات اتفرقت؛ في ناس راحت أماكن تانية في سوريا أو حتى دول تانية على أمل إنهم يلاقوا أمان في الأماكن دي، وفي ناس الحرب سرقتهم من وسط عائلاتهم ومابقوش موجودين.
جمال الطبيعة من خضار الجبال وبياض التلج
بلودان هي مصيف والسياحة هي مصدر الدخل الأساسي ليها، والناس بتحب تزورها علشان جمال الطبيعة فيها، وكمان علشان المطاعم اللي معروفة بأكلها السوري الأصيل. أما معجزة بلودان السياحية فهي “مغارة موسى”، واللي حفرها رجالة بلودان على مدى أكتر من 100 سنة، ولما تركب المركب هناك هتحس إن كل حتة فيها منحوتة بعناية وهتحس بسحر المكان وسط الهدوء ونسمات الهواء اللطيفة، وتقدر كمان ترمي فلوس (عملات معدنية) في بحيرة التمني وتتمنى حاجة. بلودان وأماكن تانية كتير في سوريا، اتضرروا جداً من الحرب وفقدوا مصدر الدخل الأساسي بتاعهم اللي هو السياحة، بالذات إن الخلايجة كانوا أكتر ناس بتيجي تزور بلودان، ومابقوش يقدروا يعملوا ده دلوقتي.
وبلودان هي منطقة جبلية وكل الشوارع هناك طالعة نازلة كإنك بتتسلق جبل، وهي مليانة بشجر الصنوبر، اللي معروف عنه إنه كبير جدًا، وشجر اللوز وأشجار تانية كتير، وده اللي كان بيخلي الهواء هناك نضيف جدًا. كنا بنقدر نشوف جمال كل فصل هناك؛ الصيف بالجو المعتدل والخضار الزاهي المُلفت، اللي بيتحول للون الأصفر بكل درجاته في وقت الخريف، وبيبجي الشتاء باللون الأبيض الناصع الجميل لما التلج ينزل، ونرجع نشوف الورود بتفتح من تاني بكل ألوانها وأشكالها المتنوعة في الربيع. وأحلى ذكريات طفولتي كانت وأنا بلعب بالتلج مع أخويا، حتى لو ماكونتش ببان من التلج اللي كان بيبقى أطول مني في أوقات كتير، بس كنا بنرمي التلج على بعض، نعمل “رجل الثلج” أو snowman وكمان نتزحلق على أكوام التلج اللي بيجمعوها علشان يفتحوا طرق. أما في الصيف، كنت بستمتع لما نطلع البساتين، زي “عين حزير” مع عيلة أم سليم، وكنت بتسحر بالطبيعة اللي قدامي من خضار الشجر وألوان الفاكهة اللي كنا بنقطفها معاهم.
وفي وقت البرد، كنا بنستخدم حاجة اسمها “الصوبيا” للتدفئة، واللي بتحتاج مازوت (زيت قابل للاشتعال) علشان تشتغل، وساعات كنا بنشوي بطاطس أو بصل على الصوبيا من فوق. بسبب الحرب الحالية، المازوت غلي جداً وكمان بقى قليل أوي، والناس مابقتش قادرة غير إنها تشغل صوبيا واحدة في البيت ويقعدوا كلهم في أوضة واحدة طول الشتاء، واللي مش قادرين يشتروا مازوت، رجعوا يعتمدوا على الحطب.
الأكل السوري: من الشاورما للتبولة والفتوش
السوريين معروف عنهم إنهم شاطرين جداً في المطبخ وأكلهم بيتميز في أي مكان بيكون فيه، وماحدش فينا ممكن يختلف على حلاوة أكلهم بأمارة الشاورما السوري والتومية اللي كلنا بنحبهم ومستعدين ناكلهم كل يوم. ومن الأكلات اللي بتميزهم هي الكبة (الكبيبة) بكل أنواعها؛ كبة لحمة، كبة بطاطس، كبة بحامض، وغيرها، واللي ماحدش يقدر يعملها رقيقة من غير ما يقطعها زي ما هما بيعملوها، والدليل هو إن “مريم” جارتنا في بلودان حاولت تعلمني أنا وماما مرات كتير، لكن لسه مش بنعرف نعمل الكبة المظبوطة لحد دلوقتي. وكانوا بيحكولنا إنه لما كان الرئيس السوري بيروح ياكل في مطعم “مورا”، كان بيتعمله كبة مخصوص عبارة عن 7 طبقات جوا بعض.
وبيتميز الأكل السوري إنه أكل صحي وخفيف لكن طعمه حلو جداً، زيّ الفتوش والتبولة وسلطات تانية كتير. ومن الجدير بالذكر إن التبولة، اللي هي عبارة عن بقدونس كتير مفروم وطماطم متقطعة صغير جدًا، هي من أكتر السلطات اللي بتاخد وقت ومجهود عن خبرة من بيتنا، لكن فاكرة إن كان في “بيت رسمية” في بلودان، اللي بقدرة قادر، كانوا بيعملوا تبولة كل يوم، وتفضل رمسية تقول “ما بنقدر نعيش بلا تبولة”. وأكيد مانقدرش ننسى المناقيش والبابا غنوج والمحمرة واللبنة على الفطار، واليالانجي (ورق عنب بارد) اللي مليان ليمون ودبس رومان ولا اليبرق بتاع “أم فؤاد”، وكمان فطاير السبانخ والجبنة. ومش هضحك عليكم، لما بروح آكل في مطعم سوري، بالذات لو اللي بيعملوا الأكل سوريين، ببقى في قمة سعادتي.. وكإني رجعت 10 سنين ورا.
حتى الفاكهة بتاعتهم مميزة عن أي مكان تاني، وكانوا بيقولوا إن ده سببه إنها بتتسقي بمياه الأمطار والتلج.. الفاكهة ألوانها ناصعة وجميلة ومغرية، وأنواعها كتير مش هتلاقيها في أي حتة تاني، وعمري ما هدوق في حلاوة “الكرز” ولا “التفاح السكري” بتاعهم.
بلودان كان فيها بساتين كتير وتُعتبر واحدة من مصادر الدخل الأساسية للعائلات هناك، وكرم البلودانيين كان كبير لدرجة إنهم كانوا دايمًا لما يطلعوا البساتين علشان يقطفوا المحصول اللي زرعوه، كان لازم يجبولنا فاكهة معاهم.. فاكهة بصراحة مادوقتش حاجة في حلاوتها لحد النهارده. للأسف، لفترة طويلة، اتحولت البساتين دي لأماكن القوى المختلفة بتستخبى فيها، وفقد البلودانيين مصدر دخل أساسي تاني، لكن هي بدأت ترجع تاني.
العادات والطقوس في الاحتفالات والأعياد
عيد الميلاد المجيد أو الكريسماس كان ليه طعم تاني في سوريا، الشجر الكبير اللي موجود في كل حتة كان بيبقى مليان أنوار وزينة، وكإنها أوروبا. والكنايس كانت بتطلع في موكب علشان بابا نويل وماما نويل يروحوا يزوروا البيوت ويوزعوا الهدايا على الأطفال، وكانت بلودان بتتملي بأصوات الأجراس وأغاني الكريسماس والأجواء الميلادية المميزة. وكتير من العادات بتاعتهم لسه موجودة معانا لحد النهارده، أبسطهم إننا لازم نصحى يوم عيد الميلاد نلاقي الهدايا بتاعتنا، أنا وأخويا، تحت الشجرة.
كانوا كمان بيزينوا الشجر والضيعة (القرية) كلها في أحد الشعانين (أحد السعف) وأحد القيامة، والزينة بتبقى عبارة عن بيض وأرانب وصوص (كتاكيت). ومن أبرز ذكرياتي عن أحد الشعانين هناك إنهم كانوا بيملوا شبكة كبيرة ببلالين كتير وكنا نقف في نص الساحة وينزلوا البلالين دي علينا، سيبك من العيال الرخمة اللي كانت بترفقعهم، بس كانت لحظة مليانة بالبهجة والفرحة، بالذات لو عرفت أخد واحدة لونها هو اللون المُفضل بتاعي.
وفي كل عيد، الشوكولاتة بتكون على شكل مختلف، فتلاقي بابا نويل وشجر وهدايا وأجراس في الكريسماس وبيض وأرانب في القيامة. والناس كلها كانت بتهتم إنها تزور بعضيها كنوع من أنواع المشاركة في الاحتفال بالأعياد، وده اللي كان بيضيف نكهة مختلفة للعيد، وكنت بستنى أنا وأخويا رجوع بابا من معايدة الناس علشان نقسم الشوكولاتة علينا.
لكل حدا سوري عما يقرا هالمقالة، قلبي معكن.. سوريا رح ترجع أحلى وأحلى.. رح ترجع عمرانة ومليانة سلام وحياة مطرح الخوف والموت، ومتل ما أغنية “طير الحرية” بتقول “طير الحرية الطاير من فوق الشام، نازل ع بردى يلاقي رف الحمام، ع جناحه لسوريا حامل سلام، ضوي يا شمس بلادي فوق الأيام”.