لم يكن صباح الجمعة 11 يوليو 2025 صباحًا عاديًا في شمال العراق. في قلب جبال السليمانية، وتحديدًا داخل كهف “كازين” الأثري، حيث اعتادت الصخور أن تردد صدى البنادق، اجتمع ثلاثون مقاتلًا ومقاتلة بوجوه غطّاها الزمن وملامح الصراع، ليشهدوا على مشهد لم تألفه ذاكرة الحرب… إحراق السلاح.
كان الصمت سيد اللحظة. الهواء ثقيل، يحمل في طيّاته رائحة البارود القديم، وهمسًا يشبه صلاة أخيرة. مرجل ضخم اشتعل بالنار، اقترب منه المقاتلون واحدًا تلو الآخر، وراحوا يلقون أسلحتهم فيه… بندقية بعد بندقية، وكأنهم يدفنون موتاهم.
قالوا، بصوت ثابت أمام قلة من الحضور: “نحن هنا، بمحض إرادتنا، وبحضوركم، ندمر أسلحتنا”، ثم أعلنوا أن النضال سيستمر، لكن هذه المرة على أرض السياسة، لا الجبال.
لم يُسمح للصحفيين بالتواجد. كل شيء جرى كما لو أنه طقس خاص لا يحتمل العيون الفضولية. لكن السماء كانت شاهدة. حلّقت المروحيات التركية فوق المكان، وسارت قوافل سوداء وبيضاء في طرق ضيقة، والتقطت الكاميرات صورًا سريعة تسلّلت إلى الشاشات.
وفي أنقرة، قال مسؤول تركي كبير بصوت لا يخلو من النصر: “ما حدث اليوم هو نقطة تحوّل لا رجعة فيها… علامة فارقة في تاريخ جمهوريتنا”.
ذلك اليوم، لم يُكتب بالحبر، بل بالنار والرماد. في كهف بعيد، أُسدل الستار على فصل امتد لأربعة عقود من القتال، بدأ في قرية تركية نائية، ومرّ عبر متاهات السجون والمفاوضات والمنفى، قبل أن ينتهي في موقد… اشتعل بآخر رصاصة.
ماذا نعرف عن حزب العمال الكردستاني؟ وكيف وُلد من رحم القمع؟ ولماذا حمل السلاح؟ وما الذي دفعه اليوم إلى إحراقه؟

لا تفوّت قراءة: خواتم وأساور تناسبك على شاطئ البحر؟ هذه 9 ماركات محلية توفر لكِ الأفضل
كيف وُلد حزب العمال الكردستاني؟ ولماذا اختار السلاح طريقًا؟

في مساءٍ بارد من شتاء 1978، اجتمع شاب يُدعى عبد الله أوجلان في قرية “فيس” المنسية بمحافظة ديار بكر.
وسط صمت الجبال الكردية، أعلن مع عدد من رفاقه تأسيس حزب جديد، لا يُشبه ما سبقه من حركات، بل يتجاوزها طموحًا وحدّة… حزب العمال الكردستاني (PKK).
كان الهدف واضحًا منذ اللحظة الأولى: إقامة “دولة كردستان الكبرى”، التي تُعيد توحيد المناطق الكردية الممزقة بين تركيا والعراق وسوريا وإيران.
وبينما اكتفت حركات كردية أخرى بالمطالبة بحقوق ثقافية محدودة، اتخذ حزب العمال الكردستاني طريقًا أكثر تصعيدًا: الكفاح المسلح.
ومن قرية نائية، بدأ حزبٌ صغيرٌ في إشعال جذوة صراع استمر لعقود، قلب معادلات السياسة في المنطقة، وغيّر وجه النضال الكردي.

كيف تغيّر فكر حزب العمال الكردستاني؟ من ماركس إلى “الكونفدرالية الديمقراطية”
منذ تأسيسه، اعتنق الحزب فكرًا ماركسيًا-لينينيًا، يمزج القومية الكردية بالاشتراكية، ويرى في الكفاح المسلح وسيلة للتحرر.
لكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأ الحزب يُراجع قناعاته، ويطرح تساؤلات حول جدوى الفكر الشيوعي التقليدي.
وفي مؤتمره الخامس عام 1995، وصف الاشتراكية السوفيتية بـ”البدائية”، واستبدل رموزه القديمة كالمطرقة والمنجل بـ”شعلة” تجدد رمزية الحركة.
لاحقًا، ومن زنزانة أوجلان، برز فكر جديد حمل اسم “الكونفدرالية الديمقراطية”، داعيًا لحكم محلي ذاتي بدلًا من الدولة القومية.
هذا التحول الأيديولوجي أرسى مفاهيم جديدة: المساواة، العدالة البيئية، والتعايش بين الشعوب ضمن نظام لا مركزي شامل.
متى أطلق حزب العمال الكردستاني رصاصته الأولى؟ وماذا كان الرد التركي؟
في 15 أغسطس 1984، دوّت أولى الرصاصات، حين نفذ الحزب هجمات منسقة على مراكز للشرطة والدرك جنوب شرق تركيا.
جاءت العمليات بعد عامين من التدريب المكثف في معسكرات بسوريا وسهل البقاع اللبناني، وسط دعم خفي من أنظمة إقليمية.
ردّت الدولة التركية بإنشاء ميليشيا “حراس القرى”، مسلّحة من السكان المحليين، لملاحقة عناصر الحزب في الجبال والقرى.
منذ ذلك اليوم، تحوّل الجنوب الشرقي التركي إلى جبهة مشتعلة، أودت بحياة آلاف الجنود والمدنيين والمقاتلين على الجانبين.
لماذا كانت التسعينيات الأعنف في صراع حزب العمال الكردستاني؟

دخل الصراع ذروته في التسعينيات، حين تحوّلت المواجهات إلى حرب مفتوحة بين الحزب والدولة التركية.
في مايو 1993، هزّ “كمين بينغول” البلاد، بعد مقتل 33 جنديًا تركيًا على طريقهم دون سلاح في حافلة عسكرية.
بعدها بأسابيع، شهدت قرية باشباغلار في أرزنجان مجزرة مروعة، راح ضحيتها عشرات المدنيين على يد مسلحين يُشتبه بانتمائهم للحزب.
جاء الرد التركي عنيفًا، إذ أطلقت أنقرة عام 1995 حملة عسكرية ضخمة على جبال قنديل، بمشاركة أكثر من 35 ألف جندي.
لكن رغم القوة النارية، فشلت العمليات في القضاء على الحزب، الذي رسّخ وجوده في الجبال الحدودية الوعرة.
كيف تحوّلت سوريا إلى قاعدة خلفية لحزب العمال؟ ولماذا انتهى الدعم؟

في تسعينيات القرن الماضي، وجد الحزب في سوريا حليفًا غير مباشر، حيث وفر له نظام حافظ الأسد معسكرات وملاجئ آمنة.
جاء هذا الدعم في سياق توترات إقليمية، أبرزها خلاف تركيا وسوريا حول مياه نهر الفرات، وتقارب أنقرة مع إسرائيل آنذاك.
لكن الضغوط التركية تصاعدت، لتُفضي إلى توقيع “اتفاق أضنة” عام 1998، والذي أنهى رسميًا الوجود العسكري للحزب في سوريا.
بموجب الاتفاق، طُرد عبد الله أوجلان من الأراضي السورية، لتنتهي رحلته بعد أشهر في قبضة المخابرات التركية.
كيف غيّر اعتقال أوجلان مسار حزب العمال الكردستاني؟
في 15 فبراير 1999، أسدلت المخابرات التركية الستار على مطاردة دولية باعتقال عبد الله أوجلان في نيروبي، العاصمة الكينية.
جاءت العملية بتنسيق مع أجهزة استخبارات من عدة دول، بعد خروجه من سوريا ورفض دول عديدة منحه اللجوء.
نُقل أوجلان إلى تركيا، حيث حوكم بتهم الانفصال والخيانة، وصدر بحقه حكم بالإعدام، خُفف لاحقًا إلى المؤبد بعد تعديل القانون.
شكّل اعتقاله لحظة زلزال داخل الحزب، إذ فقد زعيمه الرمزي، لكن التنظيم لم يتفكك، بل أعاد تشكيل نفسه وأفكاره من جديد.
لماذا تخلّى الحزب عن مشروع الانفصال؟ وماذا طرح أوجلان بديلاً؟

في عام 2003، أعلن الحزب رسميًا تخليه عن فكرة إقامة دولة كردية مستقلة، ما أثار انقسامات داخله ورفضًا من بعض قادته الميدانيين.
لم تمضِ سنة حتى أدرجته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في قوائم الإرهاب، مما زاد من عزلته الدولية.
رغم ذلك، واصل أوجلان من داخل سجنه توجيه بوصلة الحزب، داعيًا عام 2005 إلى “الحكم الذاتي الديمقراطي” بديلًا عن الانفصال.
أصبح المشروع الجديد يركز على التعايش، والإدارة الذاتية المحلية، ودمقرطة الدولة بدلاً من تفكيكها.
لا تفوّت قراءة: كم تكلّف بدلة الإطفاء؟ نظرة داخلية على معدات أبطال المطافي بحريق سنترال رمسيس
لماذا فشلت هدنة 2013؟ وماذا أشعل فتيل الحرب مجددًا؟

في عام 2012، فتحت الاستخبارات التركية قنوات اتصال مباشرة مع أوجلان، بهدف إنهاء الصراع المستمر منذ عقود.
وبالفعل، أُعلنت هدنة تاريخية في 2013، شملت وقفًا لإطلاق النار وسحب المقاتلين الأكراد إلى خارج تركيا.
لكن في 20 يوليو 2015، هزّ تفجير انتحاري مدينة سروج، وأودى بحياة 32 شابًا، ما أعاد التوتر إلى الواجهة.
ردّ الحزب بقتل شرطيين تركيين، لتبدأ بعدها جولة جديدة من القتال، شملت ضربات جوية على قواعده في العراق وسوريا.
لا تفوّت قراءة: هل كان الطريق إلى الشهرة يبدأ بـ95%؟ اكتشف درجات نجوم الفن والرياضة في الثانوية العامة
هل تكون “رسالة إمرالي” نهاية الحرب؟ وما الذي تغيّر بعد 40 عامًا؟

بعد عام 2015، واجه حزب العمال الكردستاني أحد أقسى فصوله؛ ضربات جوية مركزة في العراق وسوريا، وحملات عسكرية أضعفت حضوره بشدة.
التأييد الشعبي تراجع، والخيارات تقلّصت، حتى جاء نداء مفاجئ في أكتوبر 2024 من الزعيم القومي دولت بهتشلي إلى عبد الله أوجلان.
ردّت الحكومة بفتح باب الحوار، وسمحت لوفد كردي بزيارة أوجلان في سجنه بجزيرة إمرالي، لأول مرة منذ سنوات.
وفي 27 فبراير 2025، أصدر أوجلان بيانًا تاريخيًا دعا فيه الحزب لحلّ نفسه والتحول إلى العمل السياسي السلمي.
وبعد يومين فقط، أعلنت قيادة الحزب وقفًا فوريًا لإطلاق النار، في مشهد وصفه كثيرون بـ”نهاية حرب الأربعين عامًا”.
هل انتهت الحرب فعلاً؟ وماذا حدث داخل كهف كازين؟
بعد اجتماعات مغلقة بين 5 و7 مايو 2025، أعلنت وكالة “فرات” قرارًا حاسمًا: حزب العمال الكردستاني قرر حلّ نفسه رسميًا.
البيان لم يبدد الشكوك، فالعالم اعتاد على مبادرات سابقة لم تكتمل، وبقي يتساءل إن كانت هذه النهاية حقيقية.
لكن يوم الجمعة 11 يوليو، في كهف كازين قرب السليمانية، جاء المشهد الرمزي الكبير: مقاتلون يُلقون أسلحتهم في النار.
كانت لحظة صامتة، ثقيلة بالمعاني، حملت معها وداعًا لصراع دام أربعين عامًا، أنهك الأكراد والدولة التركية معًا.