ماذا بعد انتهاء الحرب في غزة؟
يطالب العالم بـ”الهدنة الإنسانية” ولو لأيام قليلة، كلًا يسعى ورائها، خطابات وتصريحات ومن يشجب ومن يستنكر، ولكن إذا حدث هناك هدنة وإذا تطور الأمر لوقف إطلاق النار وانتهاء الحرب، إذا انتهت مكتفية بكل هذا الدمار والخراب، وعدنا كمشاهدين لما يحدث لحياتنا الطبيعية، هل الأمور هناك ستعود أيضَا للحياة الطبيعية؟ هل بمجرد استيقاظهم في الصباح في أول يوم بعد وقف إطلاق النار سيعود كل شيء في مكانه الصحيح؟ دعونا نتخيل ما ممكن أن يحدث.
إعمار غزة؟ ولكن ماذا عن إعمار القلوب وترميم الأحلام؟
في أول خطوة بعد وقف إطلاق النار، كل الدول ستسعى لجمع التبرعات لإعادة ما دمرته صواريخ الحرب من بيوت ومحال وجوامع وكنائس ومدارس ومستشفيات، سنسعى للإعمار الظاهري والسطحي، ولكن من سيعيد جدران بيوتهم القديمة؟ من سيعيد الدفء الذي كان فيها ومن سيعيد ما كان مدون عليها للتذكرة بمواعيد المذاكرة وصور المحبين والطوابع الصغيرة التي لم يتجرأوا يومًا على محييها منذ سنين برغم من هلاكها، من سيملأها مرة أخرى؟ من سيعيد شقوق الحيطان التي خبرتنا بأن كانت هناك حياة وذكريات وأناس يضحكون، ماذا عن أشباح الذكريات التي ستغتالهم؟
أكثر من 400 عائلة مسحت من السجل المدني حسب آخر تصريحات لصحة غزة وأكتر، وأن نحو 18 ألف طفل فلسطيني باتوا يتامى جراء استشهاد أحد أو كلا والديهم، سيعيشون ربما في دور أيتام أو على الأرصفة أو بالتبني بسبب الحرب الأكثر دموية على الإطلاق منذ 2008، والتي وصفوها بـ”مقبرة الأطفال”، فإذا لم يمت الأب أو الأم أو الأخت فمات الابن والعم والخال.
حتى الأن آكثر من 32 ألف مصاب سواء بجروح بالغة وخطيرة أو بسبب بتر لساق أو أيدي أو تشوهات لا يقدر على علاجها، بعد ذلك بسبب قنابل الفسفور الأبيض والمحرمة دوليًا وتفنينات في ارتكاب جرائم الحرب ممن تسلخ وتغلي الجلود فكيف سيتعاملون مع تلك التشوهات؟
ليست فقط جروح الوجوه بل الأرواح أيضًا
من ضمن الفيديوهات التي استوقفتني كثيرًا، غزاوية وهي تقول ” ياللي صار فينا بده سنين وعمر بحاله علشان نتعالج منه نفسيًا” بعضنا أحيانًا أصبح يمتنع عن رؤية المشاهد من فظاعتها، ولكن ماذا عن من يعيشها كل لحظة؟ لحظات الخوف والرعب والجوع والفقد، لحظات استخراج الأشلاء واستخراج الجثث على أمل أن يجدوا شخص حي.
وفقًا لبعض أستاذة علم النفس أنه من المتوقع أن يعاني سكان قطاع غزة، رجالًا ونساء، كبارًا وصغارًا، مِن سلسلة صدمات نفسية متواصلة وليست صدمة واحدة؛ حيث تمر أمامهم سلسلة أحداث في اليوم، منها القصف ورؤية أجساد الموتى، والمصابين، والتعرض أحيانًا لبتر أطراف، بما يسمى بـ”كرب ما بعد الصدمة” أو “شدة ما بعد الصدمة”.
فهم الآن يمتصون تراكمات نفسية لا يقدروا على التعبير عنها في الوقت الحالي من كثرة الخبطات التي لا تنتهي، لا يملكون حتى رفاهية الانهيار، فالآن فهمنا معنى تلك الجملة فهي خلقت لشعب فلسطين لوحده ولغزة بالتحديد في تلك الأيام “لا يملكون رفاهية الانهيار”، فبعد أن يحدث وقف لإطلاق النار يحاول كل شخص أن يستوعب ما فقده في حرب الإبادة فبكل تأكيد سينفجروا!
غزة تغيث نفسها
هل نحن نحمل همًا زائدًا للشعب الفلسطيني؟ هل لسنا مدركين لطبيعة الشعب الإيمانية؟ هذا الشعب فاجيء العالم كله بصلابته وتمسكه بكل معتقداته وإيمانه رغم كل ما يحدث وبرغم الخراب النفسي، شاهدناهم وهو يواسون بعضهم ويآزرون أنفسهم ويشدون على بعض ويحاولون إسعاد غيرهم والأطفال بأبسط الأشياء، ونماذج آخرى من أشخاص تحب الحياة وكل هذا بدون الالتفات للعالم، لا شك أننا كنا نستمد القوة منهم ومن صلابتهم حتى تظل غزة تغيث نفسها ونحن على أمل أن تظل تغيثها وتغيث كل مخاوفنا السابقة.
أما نحن، ماذا عنا؟
أما نحن هل سنعود كما كنا؟ وتلهينا الحياة؟ هل سنعود وكإن شيئًا لم يكن.. أم سنظل متذكرين الأصوات والكلمات والمشاهد، هل سننسى الحامل لأشلاء أولاده في كيس بلاستيكي؟ من سيسامح ؟ ومن سيدفع ثمن الجرائم؟
نتمى أن نحيا لليوم الذي نذهب فيه لشجر الزيتون ونأكل من خبز الطابون، فالإعمار الوحيد الذي نرضى به هو أن تعود الأرض لأصحابها.