في القرن التاسع قبل الميلاد، قامت في واحدة من مدن شمال أفريقيا مدينة عظيمة، وهي قرطاج، حضارة وليدة اعتمدت على نشاط التجارة في البحر المتوسط وشمال القارة السمراء، وفي حوالي القرن السادس قبل الميلاد أصبحت الحضارة الوليدة إمبراطورية تجارية مفتولة العضلات، قدرت تحتل أجزاء من أراضي حضارة أخرى عظيمة كانت بتكبر في الشمال، وهي حضارة روما.
حضارتين متعاظمتين كانوا بيكبروا ويشتدوا في نفس الوقت، وبالتالي كان الاصطدام بينهم أمر محتوم، وفي سنة 246 قبل الميلاد حصل الصدام فعلًا وبدأت “الحرب البونية الأولى” في سبيل السيطرة على جزيرة صقلية، التي شكلت ضرورة للإمبراطوريتين المتوسعتين تجاريًا وحربيًا.
حرب شرسة استمرت 23 سنة من غير ما تتحسم لطرف من الطرفين المتساويين في القوة، ولكن لإن روما كانت حضارة حربية تعتبر الحرب نموذج مجدها، وقرطاج حضارة تجارية أضرت الحرب الطويلة والثروة الضائعة بتجارتها، قررت الأخيرة الاستسلام والرجوع للتجارة، بعدما تدمر أسطولها البحري بالكامل.
ولكن هل تحتفل روما بالنصر وينتهي الأمر؟ لا.. أرادت روما كسر أنف قرطاج وضمان عدم قيامها مرة أخرى، ففرضت عليها 81 طن من الفضة جباية سنوية، وتأخذ منها أراضي وجزر من أملاكها في البحر المتوسط، وبالتالي تحول قرار قرطاج بالاستسلام رغبة في كف الخسائر، لأكبر خسارة في تاريخها.
ستستمر قرطاج في تجرع كأس الهزيمة والخزي لسنوات، قبل مجيء قائدها الأعظم “حنبعل برقا” الذي سيقف على أبواب روما فتصرخ النساء فزعًا “حنبعل على الأبواب”.
كل الطرق تؤدي إلى روما
والد حنبعل هو القائد القرطاجي حملقار برقا، وكان واحد من أهم قادة جيوش الإمبراطورية الشمال أفريقية، طوال فترة صراع قرطاج مع روما لم يخسر حملقار ولا معركة مع روما، وتوسع في إسبانيا بشكل كبير.
عندما أصبح حنبعل قائد قرطاج في عشرينات عمره، وحقق توسعات ضخمة في إسبانيا، تذكرت روما أسباب اشتعال الحرب البونية الأولى، وكان لابد من توقف توسعات قرطاج، فبعثت رسلها لحنبعل تهدده وتطلب منه الرجوع إلى حدوده.
تهديد لم يعجب الفتى الشاب، وبعث رسل روما بتهديد يفيد عدم تراجعه، مع رسالة مضمونها إنه في المرة القادمة لن يبعث برسائل مع رسول، ولكنه سيصل بنفسه لأبواب روما، في تهديد واضح بالغزو.
قرر حنبعل يغزو روما فعلًا، وتحرك بجيشه برًا في طريق طويل يمر بإسبانيا وجبال البرانس وجبال الألب. قائد شاب غرور، معه جيش ضخم في طريق طويل جدًا، 100 ألف جندي، و19 ألف حصان، و37 فيل.
لماذا لم يسلك حنبعل طريق البحر المختصر؟ لإن اسطول قرطاج البحري دُمر في الحرب البونية الأولى كما ما ذكرنا في بداية المقال، المهم يا عزيزي القارئ؛ وجد الشاب الشجاع نفسه وحيد في مواجهة واحدة من أعظم إمبراطوريات العالم وقتها…حتى قادة قرطاج لم يقفوا معه، لإنهم كانوا ضد الحرب على روما ويريدوا لتجارتهم أن تمر في سلام.
سنوات عدت على جيش حنبعل في طريقه الطويل، وفي مواجهة درجات حرارة تحت الصفر في جبال الألب. طريق من قسوته اعتقدت روما إن جيش حنبعل لن ينجو منه، لدرجة اأنهم لم يقوموا بأي استعداد لمواجهته.
ولكن وصل جيش الشاب المعجزة لأبواب روما وقف على تلة ينظر لروما الممتدة أمامه، وينظر للجيش الذي وصل معه، وأدرك أنه فقد عدد كبير من جيشه الذي انطلق معه من قرطاج، فنصفهم مات، والنصف الباقي تحول لظلال رجال من البرد والجوع.
يخطب حنبعل في جنوده المرهقين: “الجبل من ورائنا والعدو من أمامنا، ولا سبيل إلا النصر”. وبالفعل تدخل روما معارك وراء معارك مع جيش حنبعل الأقل عددًا والأضعف قوة، ولكن تخسر في كل مرة بسبب ذكاء استراتيجياته العسكرية.
سنين وحنبعل على أبواب روما وفي أراضيها ولا أحد يستطيع هزيمته، حتى دارت معركة كاناي في سنة 216 قبل الميلاد. وهي المعركة التي قررت بها روما أن تنهي الحرب، وجمعت كل عتادها وقواتها وهجمت على جيش القرطاجي الشاب، ولكنه قدر على هزيمتهم شر هزيمة.
هزيمة أثارت الفزع في روما، وصرخت النساء “حنبعل على الأبواب”، خوف ورعب عاشته المدينة محفور في ذاكرتها للأبد. هزيمة ستدفع روما لاتخاذ أغرب قرار من الممكن مدينة في موقفها تأخذه. قررت عدم الاستسلام، والاستمرار في الحرب، لدرجة إنها ترفض التفاوض على الرهائن رغم حاجتها الشديدة للجنود.
أدركت روما وقتها إن التفاوض مع حنبعل على الرهائن معناه الإعتراف بالهزيمة، وهو شئ كان مرفوض بشكل قاطع، وأدركت إن طلب حنبعل للتفاوض معناه تعبه من الحرب، وبالتالي كان الرد الحربي السريع ضرورة.
تراجع حنبعل عن غزو روما، وكُتب لها عمر جديد، ولكن ظل القائد الوحيد في أرض روما وخارج أسوارها يخطط ويتفاوض مع حلفاء من أجل كسر شوكة روما. حكاية طويلة ممتدة لمقالات قادمة.