حضارة كوش في السودان: هل تجاهلها المؤرخين لأغراض سياسية؟
بعد ما قدر الشعب السوداني يتخلص من حكومة البشير في ربيع سنة 2019، كانت صور الثورة اللي انتشرت على تويتر وفيسبوك ملفتة للنظر، وشوفنا أمواج من الشباب بالآلاف بيحتشدوا في تحدي سلمي للنظام، أمواج من الشباب بيطالبوا بعالم مختلف يليق بجيل النهارده. لكن مشهد واحد كان مميز جدًا، واتكرر كتير في سلسلة من صور السوشيال ميديا والفيديو: كانت شابة سودانية لابسة الزي الأبيض التقليدي وواقفة فوق عربية، بتشاور بصباعها للسماء اللي بدأ ظلام الليل يكسيها، ورددت البنت مع الحشد: “جدي تهراقا؛ حبّوبتي كنداكة”. وحبوبتي، معناها جدتي باللهجة المحلية.
بتقول الصحفية كريستين رومي اللي زارت السودان بعد الثورة، إنها اندهشت جدًا، لإن الهتاف ماكانش بيدعم جماعة سياسية أو حركة اجتماعية معينة.
وبتحكي الرومي عن تأثرها باللي ردده المتظاهرين في المشهد ده: “المتظاهرين أعلنوا إنهم من نسل “تهراقا”، ملك إمبراطورية “كوش” القديمة، ونسل ملكاتها وأمهاتها اللي اتعرفوا باسم “كنداكة”. وحكم الأجداد دول إمبراطورية عظيمة حكمت وسادت شمال السودان وامتدت في زمن معين للمنطقة الجغرافية المعروفة النهارده باسم الخرطوم ووصلت لحد سواحل البحر المتوسط. حققت الإمبراطورية الكوشية توسعات مبهرة، لكن ذكرها للأسف فضل في غالبيته مجرد كلام قليل في هوامش كتب التاريخ المصري القديم. وحتى جوا السودان، ماتعلمش غير عدد قليل جدًا من الطلاب اللي اتربوا في فترة نظام البشير عن تاريخ كوش العظيم. وعلشان كده سألت الرومي: لما موروث مملكة قديمة زيّ كوش يبقى مش معروف حتى في أوساط علماء الآثار، فما بالك بالسودانيين العاديين؟ واعتبرت ترديدات الحشود صرخة مدوية وموحدة انطلقت فجأة في شوارع الخرطوم تعود بالناس للماضي وبتديهم أرض صلبة توحد أصواتهم.
موقع السودان المميز عند نقطة إلتقاء إفريقيا مع الشرق الأوسط ونقطة إلتقاء ثلاث روافد رئيسية لنهر النيل، خلته موقع مثالي للممالك القديمة القوية، وكمان أرض مطلوبة اتمنت الإمبراطوريات الأحدث عهدًا إنها تسيطر عليها. فهتلاقي في العصر الحديث خضع السودان للحكم العثماني المصري، بعدها خضع للهيمنة البريطانية المصرية لحد سنة 1956، لما جمهورية السودان استقلت. والنهارده، بيضم السودان تشكيلة متنوعة من المواطنين بيمثلوا أكتر من 500 مجموعة عرقية بتتكلم أكتر من 400 لغة وبتتكون من فئة شباب واسعة جدًا: حوالي 40 في المئة من السكان عندهم أقل من 15 سنة.
والسودان هو أكبر تالت بلد في إفريقيا، وهو كمان البلد التالت الأكبر في العالم العربي. وبتوضح الرومي إن لفظة السودان مشتقة من عبارة “بلاد السودان” ومعناها أرض السود. وفضل السودان من وقت استقلاله محكوم من خلال نخبة سياسية بتتكلم اللغة العربية.
قبل ثورة 2019، استخدم نظام البشير مسائل جيوسياسية وعقائدية علشان يواري عن مملكة كوش القديمة، وظهرت في الوقت ده على إنها إقطاعية خلفتها الحليفة الحديثة القوية، مصر؛ وبالتالي تم اعتبارها فصل في كتاب تاريخ الشرق الأدنى مش أفريقيا. وتم الترويج للمواقع الأثرية الكوشية، زيّ جبل “البركل” و”الكرو”، على إنها هامشية، وتم حد وجودها السياحي في رحلات سريعة للسياح الغربيين اللي بيزوروا أطلال أبو سمبل، عند حدود مصر.
وقبل كده كان جبل “البركل” هو المركز الروحي لمملكة كوش، وبياخد شكل هضبة ضخمة من الحجر الرملي بارتفاع مبنى من 30 دور بتظهر من الصحراء بشكل مهيب فوق الضفة الغربية لنهر النيل على مقربة من كرمة، على بُعد حوالي 350 كيلومتر من شمال الخرطوم.
قبل 2700 سنة تقريبًا، نحت الملك تهراقا اسمه على قمة الجبل المقدس، جبل البركل، وكساه بالدهب علشان يكون شاهد على انتصاراته ويبهر به أعداءه. والنهارده كل اللي بيشوفوه متسلقين الجبل هي آثار من نقش الملك تهراقا. وعند سفح الجبل أطلال “معبد آمون العظيم” اللي بناه في الأصل المصريين اللي استعمروا مملكة كوش في القرن السادس عشر قبل الميلاد. وعلى مرّ القرون الخمسة اللي سيطرت فيها مصر على كوش، تم إعادة بناء معبد آمون وتجديده بواسطة عظماء فراعنة المملكة الجديدة زيّ أخناتون” و”توت عنخ آمون” و”رمسيس الأكبر”. وده لإن استيعاب كوش وانصهارها في بوتقة مصر كان أمر عادي ومتوقَع، على حسب كلام الرومي؛ وخلال الزمن ده كانت النخبة الكوشية بتتعلم في مدارس مصر ومعابدها.
إلا إن أطلال معبد آمون اللي بيشوفها الزوار النهارده ترجع لزمن ما بعد انهيار المملكة الجديدة وتراجع النفوذ المصري في بلاد كوش. ولما وصل التاريخ للقرن الثامن قبل الميلاد، بقى جبل البركل مركز نبتة، العاصمة الكوشية اللي شكلت مركز لسلسلة من الحكام المحليين ومركز سلطة قوي استخدموه علشان ينشروا توسعاتهم، ومنها قلبوا الترابيزة على مستعمرهم القديم، مصر.
جلس “بعنخي”، والد تهراقا، على عرش كوش سنة 750 قبل الميلاد. جمع جنوده واتوجه للشمال لمصر، واستولى على المعابد وقهر البلاد والقرى، لدرجة إن مصر من شمالها لجنوبها بقت تحت سيطرته في نفس الوقت. وعلى مر حوالي قرن من الزمن، بقت كوش أكبر إمبراطورية بتسيطر على المنطقة؛ وامتدت للمنطقة الجغرافية المعروفة النهارده باسم الخرطوم ولحدود سواحل البحر المتوسط. وخلال الفترة دي، بقى ملوك كوش، “بعنخي” و”شباكا” و”شبتكو” و”تهراقا” و”تانتاماني” هما الأسرة الخامسة والعشرين في مصر، وهما اللي بيتسموا في كتب التاريخ المصري القديم باسم “الفراعنة السود”.