أحمد عدلي بين العلم والخرافة: المنهجية العلمية في سلسلة الحضارة المفقودة والردود عليها
من قديم الزمن، وصروح المصريين القدماء الشامخة العظيمة بتحرك شغف كل من يراها، وبتثير حيرته وبتخليه يفكر في اللي بنى الأمجاد دي، فتشطح خيالاته أو تُنار أفكاره باحتمالات وتفسيرات للعجائب اللي قدامه، كتب عن الآثار المصرية كل اللي زارها من اليونانيين والرومان والعرب وغيرهم.
بعد دخول الحملة الفرنسية مصر سنة 1789، ودراسة الآثار المصرية بشكل أقرب وأكثر منهجية علمية، نجح الفرنسي جان فرانسوا شامبليون، في ما حاول علماء كتير على مدار الزمان إنهم يحققوه وفشلوا، قدر العالم الفرنسي العبقري يفك شفرة اللغة المصرية القديمة المكتوبة على الآثار، ومن هنا بدأ علم ثوري جديد هيغير ملامح علوم الآثار في العالم كله وهو علم المصريات (Egyptology).
لما قدرنا نقرأ النصوص اللي مكتوبة على الآثار، بدأت الألغاز تتحل واحدة واحدة، وتنهار معاها الخرافات القديمة، اللي اعتقدت إن بناة الآثار دي عمالقة أو جن أو غيرها من التفسيرات الخزعبلية.
لكن فضل علم الآثار مش قادر يجاوب على كل الألغاز برضه، لإن النصوص المصرية القديمة تبدو رمزية في معظمها، لدرجة إن التاريخ الاجتماعي والسياسي للمصريين القدماء فضلت أجزاء كبيرة منه لغز، لإن المعلومات اللي بتقدمها النصوص في معظمها عبارة عن بروباجندا سياسية ضخمة، لازم تمر عليها بحذر وتدرسها وأنت عارف إن جزء كبير منها هو تلفيق وتعظيم في شأن كاتبها.
التعقيد والتلغيز اللي قصده قدماء المصريين في كتاباتهم، خلى الخرافات والتفسيرات الخزعبلية لأسرار حضارتهم موجودة لحد النهارده، سواء من ناس بيدعوا إنهم علماء وبيناقشوا علوم زائفة (Pseudoscience) أو بيجادلوا بأدلة علمية هامشية (Fringe Science)، وظهر نتيجة نقص نظريات علماء المصريات وهشاشتها أحيانًا، وتدليس ولوي أذرع الأدلة من المدعين على الطرف الآخر، حالة من الشيزوفرينا في دراسة الحضارة المصرية، واللي مهدت الطريق لنظريات بتدعي إن الحضارة بالكامل من صناعة مخلوقات من كواكب تانية، أو إن المصريين القدماء امتلكوا تكنولوجيا تفوق بكتير اللي علم المصريات بيقدمه لنا على إنه الحقيقة.
كتير من النظريات الهامشية دي تافه ومدلس، ولكن بعضها عنده طرح متماسك وعلمي. الصراع بين المنهجية السائدة في علم المصريات والنظريات الهامشية فضل يتحول طول الوقت لمواجهات شخصية وغير علمية بدل من مواجهة بالأدلة وبالمنطق، مواجهات بتتحول فيها النظرية من دراسة منهجية وعلمية إلى شتايم وتسفيه.
أحمد عدلي وسلسلة الحضارة المفقودة: دراسة جادة في النظريات الهامشية
من تلات سنين، ظهرت أول حلقة في سلسلة من 14 حلقة على اليوتيوب، اسمها “الحضارة المفقودة”، بتناقش تصور مختلف عن الحضارة المصرية، وعن عمرها الحقيقي ومستوى التكنولوجيا اللي اتوفرت لأهلها. بيدعي أحمد عدلي، صانع السلسلة، إن الحضارة المصرية اللي نعرفها مش هي الحضارة الأولى في مصر، ولكن كان في حضارة تسبقها، مصرية برضه، هي اللي عملت كل الإنجازات العظيمة اللي احنا شايفنها، زي الأهرامات والمعابد والمسلَّات والتماثيل وسراديب السيراپيوم.
وبيدعي عدلي إن الحضارة المصرية المعروفة النهارده، وقصده بداية عهد الأسرات، كانت حضارة لاحقة أعادت استخدام آثار اللي قبلها، ونسبها ملوكها لأنفسهم، وبيقدم عدلي أدلة تبدو مقنعة وقوية جدًا، وقدر يستخدم مجموعها عشان يوصل لاستنتاج مثير: الحضارة الأولى اللي سكنت أرض مصر كانت حضارة متقدمة عرفت الآلات والطاقة، الحضارة دي انقطعت علومها عننا ولم تصلنا بعد وقوع كارثة محت آثارها، وإن أهل الحضارة المصرية المعروفة لنا جاؤوا بعد الأولين ونسبوا اللي سابوه من آثار لنفسهم.
آخر حلقات السلسلة اللي بيقدمها عدلي نزلت من كام يوم، وبعد تلات سنين من أول حلقة اتحولت السلسلة لتريند، وبدأ ناس كتير يهاجموها ويهاجموا صانعها، لكن عند المشاهدة هتلاحظ إن النظريات اللي بيطرحها عدلي إن تبدو في الأول خرافات مفتقدة للمصداقية، بيقنعك عدلي ببعضها وبيدفعك للتفكير في البعض الآخر من منطلق “والله كلام معقول، ليه لا!”. على مدار تلات سنين من الدراسة المنهجية والتجريب على أرض الواقع، قدر عدلي يقدم أدلة قوية على نظرياته، ويطرح أسئلة مشروعة بخصوص أصل الحضارة.
خلاف منهجي: نظريات أحمد عدلي والرد عليها
مقال بالغ الطول عن أحمد عدلي وسلسلة «الحضارة المفقودة».
أرجو من القارئ عدم التسرُّع بالرد إلَّا إذا قرأ الطرح كاملًا،…
Posted by Nader Osama on Tuesday, January 10, 2023
بعد ما اتحولت سلسلة “الحضارة المفقودة” لتريند وجدال ما بين الداعمين والمشككين، دخل في الجدال المصري نادر أسامة، اللي درس علم الإحاثة (Paleontology) أو علم الحفريات، من جامعة ألبيرتا الأمريكية. وعلم الحفريات هو دراسة للحياة القديمة من خلال الحفريات اللي بنلاقيها مدفونة، فبيدرس حفريات الديناصورات وأي حفريات تانية، ويعتبر علم المصريات فرع من فروعه.
في مقال طويل، ناقش أسامة سلسلة الحضارة المفقودة ورد على بعض الأفكار اللي تم طرحها فيها، بعد مقدمة طويلة ومهمة في المقال، بيبدأ أسامة بقوله: “أحمد مهندس شاب جميل لم أسمع به من قبل، شغوف ومتفاني لأقصى درجة، بيسعى وراء شغفه بقوَّة، وبيمارس هوايته بشكل احترافي، أفكاره منظَّمة ومرتَّبة وأنيقة.. أحمد مخلص، ومقتنع جدًّا باللي بيقدِّمه، وغرضه ليس التدليس أو التجهيل، ولا يتبع أي أچندات”.
زيّ معظمنا، بدأ أسامة يتفرج على حلقات أحمد عدلي وهو متشكك في الأساس، ولكن اتفاجئ بأسلوب الطرح الممتع والمسلي، واللي خلاه يفكر في نقاط كتير إشكالية، وده اللي خلاه يعتبر الكلام اللي بيتقال معقول، ومحتاج تفكير.
بدأ أسامة، المتخصص في علم الحفريات، يفكر أكتر في نظريات عدلي، وقبل ما يبدأ في نقضها أشار لنقطة مهمة جدًا: “حتِّة إننا نقدح في أحمد عدلي لإنه كان بيكتب خُرافات قديمة على مدوَّنته فدا ضرب خبيث تحت الحزام ملوش داعي. الراجل ما دام مسح ما كتب فدا معناه إنه لم يعد مقتنعًا به.. احنا عاوزين نناقش ما يطرحه حاليًا دون اللجوء إلى مغالطة رجل القش، ونرد على الأفكار بأفكار”.
تحية طيبة وبعد: الرد على الأفكار
من خلال الفيديو اللي فوق ده، بيرد نادر أسامة على أسئلة أحمد عدلي عن استحالة نقل الأحجار الضخمة في بناء الأهرامات من غير أدوات تكنولوجية متقدمة، وبيقول: “أظن دا إثبات تجريبي عملي على إن الموضوع مش مستحيل على الإطلاق، وإن كل اللي محتاجه هو تفكير خارج الصندوق، وكثير من الجهد. كدا تساؤلات أحمد عدلي عن تحريك الأحجار الضخمة أُجيب عنها”.
أما الإعجاز في إدخال توابيت السرابيوم في مكانها، فبيرد عليه من خلال الفيديو اللي فوق، واللي بيشرح طريقة يدوية بسيطة تستخدم أوناش من الخشب والحبال تقدر تحرك التوابيت بطريقة بسطية وباستخدام عشرات من الرجال. وبيقول: “أظن إن الڤيديوهين دول كافيين لحسم المسألة تمامًا. لم نعد في حاجة إلى آلات متطوِّرة لأداء المهام السابقة، لأن يمكن تنفيذها بالتكنولوچيا والأدوات والعلوم المتاحة لملوك عصر الأسرات”.
وفي النقطة الخاصة باستخدام الهرم الأكبر كآلة ضخمة لتوليد الكهرباء، جادل أسامة إن تصميمات الأهرامات المختلفة في مصر تختلف تمامًا عن تصميم الهرم الأكبر، واعتبر إن ده بينفي الفكرة القائلة إنها آلات توليد طاقة.
استمر أسامة في تفنيد مجموعة من الأفكار اللي تم طرحها في سلسلة الحضارة المفقودة، زي فكرة إن مصر صورة للسماء وإن الأهرامات وأبو الهول بيعكسوا صورة الأجرام السماوية قبل 10500 سنة قبل الميلاد، وعمر الأهرامات وأبو الهول اللي أرجعه أحمد للفترة الزمنية السابقة نفسها، ونحت أحجار شديدة الصلادة زي الجرانيت والبازلت.
استمر أسامة في مقاله الطويل يفند أفكار عدلي، مش كلها، ولكن بعضها، وفي الآخر قال: “أتمنى بالفعل إن حد من المتخصِّصين يطلع ويكمِّل لي النقط اللي لم أجد لها إجابة، أولًا لإن بعضها مُحيِّر بالفعل، وثانيًا لإن الفكر لا يُحارب إلَّا بالفكر. لو واحد زيي غير متخصِّص قدر بعد شيء من البحث يدحض أكتر النقاط (معتمدًا على ترتيب وتجميع مجهودات آخرين في حُجَّة واحدة مضادة)، فأكيد النقاط التي ما زالت مُعلَّقة ليست بذات الصعوبة كما بدت أول مرة في أثناء المشاهدة. ولو معملناش كدا لا تلوموا على الناس إنها مصدَّقة ومنبهرة وبتهلل، وشوفوا هتتعبوا قد إيه عشان تخرجوا الأفكار اللي اتزرعت في عقولهم، دا إن نجحتم في إخراجها من الأساس”.
هل انتهى الموضوع هنا؟ أكيد لا، في التعليقات هتلاقي ملحوظات على كلام نادر أسامة، ونقض لكتير من الأفكار اللي استخدمها في تفنيد نظريات أحمد عدلي، وكتير من التعليقات دي مقنع جدًا، زيّ ما نظريات أحمد عدلي مقنعة وردود نادر أسامة عليه مقنعة.
إيه اللي هنستفيده من الجدلية اللي بتحصل دي؟
بغض النظر عن النتيجة النهائية للجدلية دي ومين هينتصر فيها، حابب أسلط الضوء على نقطة مهمة جدًا، وهي النقاشات العلمية المنهجية المحترمة. النقطة دي توافرت بشكل رائع جدًا في الجدلية اللي بين إيدينا النهارده، بداية من اتباع أحمد عدلي لطرق منهجية في البحث واستثمار وقت وجهد ومنهج بحثي وتجريبي في إثبات نظرياته، لحد الرد المنهجي المحترم اللي جاي من نادر أسامة، واللي بيناقش أفكار عدلي بهدوء وبطريقة علمية من غير ما يخوض في شخص صاحب الأفكار.
اللي احنا هنستفيده من اللي بيحصل النهارده ده، هو إننا نتعلم ازاي نختلف مع بعض ونفكر بطريقة مجردة، ونفصل ما بين الشخص وأفكاره، والأهم من كل ده نتعلم ازاي نحترم أفكار بعض ونقدر المجهود المبذول في الفكرة اللي قدامنا، ولما نيجي نفندها ونناقشها يكون بهدوء وبتقدير حقيقي للقيمة البحثية اللي وراها.
في النهاية، نتمنى إن أحمد عدلي يرد على مقال نادر أسامة، ونتمنى إن الجدلية توصل لمتخصصين عاملين في علم المصريات ويردوا علينا بهدوء وبشكل جاد، ويعملوا زي نادر أسامة ويتناولوا أفكار السلسلة واحدة بواحدة، ويشرحوا وجهة نظرهم بنفس الهدوء والمنهجية اللي استخدمها أحمد عدلي.
وفي النهاية، احنا منتظرين جدلية علمية ومنهجية نستمتع بها وندور من خلالها على الحقيقة، وتقنعنا كجمهور عادي بيحب الحضارة المصرية وشغوف بأسراراها وألغازها.