في جنوب سوريا، حيث تعلو جبال السويداء شامخة كهوية صامدة، تبرز طائفة الدروز كلاعب رئيسي.
وعادت السويداء مجددا إلى الأضواء، بعد موجة من الاضطرابات الأمنية والصدامات المسلحة التي شهدتها المحافظة في الأسابيع الأخيرة بين عشائر وفصائل محلية أسفرت عن مقتل نحو أكثر من 350 شخص، مما دفع الجيش السوري للتدخل.
الأمر الذي أدى إلى تدخل الجيش الإسرائيلي، حيث شن ضربات جديدة استهدفت القصر الرئاسي ومقر هيئة الأركان السورية. وبرر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذه الضربات بأن دولته ملزمة بحماية الأقلية الدرزية في منطقة السويداء. وبعدها، سرعان ما انسحب الجيش السوري مباشرة.
جاء الانسحاب بعد أن أعلن مصدر في وزارة الداخلية السورية وأحد شيوخ عقل طائفة الموحدين الدروز، يوسف جربوع التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار يقضي بدمج السويداء بالدولة في حين رفض الرئيس الروحي للطائفة حكمت الهجري هذا الاتفاق داعيا لمواصلة القتال حتى “تحرير المحافظة” مما وصفها بـ”العصابات”.
نسلّط الضوء على أصول الطائفة الدرزية، وخصوصيتها العقائدية والاجتماعية، ومسارها التاريخي داخل سوريا، لفهم خلفيات التوتر الراهن، وأسباب استهدافها المتكرر.
لا تفوّت قراءة: من هو مؤسس “Play AI”؟ وكيف تحولت فكرة شاب مصري إلى صفقة استحواذ من “Meta”؟
السويداء.. معقل الدروز تحت الحصار الجغرافي والنار السياسي

تعد محافظة السويداء القلب الجغرافي والسياسي للطائفة الدرزية في سوريا، لكنها باتت اليوم واحدة من أكثر المناطق توترًا في البلاد.
السويداء، المحافظة الجبلية، التي يقطنها غالبية درزية، تقع في موقع استراتيجي شديد التعقيد: من جهة تحدّها البادية السورية، التي تسكنها قبائل سنية بدوية، ومن جهة أخرى تحاصرها مناطق يسيطر عليها النظام السوري وفصائل إسلامية مسلحة.
هذا الوضع الجغرافي الحرج جعل من السويداء ساحةً مفتوحة لتصادم النفوذ، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع، القائد الجهادي السابق، إلى الحكم في دمشق.
ومنذ ذلك الحين، رفضت السويداء أي محاولات لفرض سلطة مركزية على أراضيها. ميليشيات درزية محلية، جرى تشكيلها لحماية المجتمع من التنظيمات المتطرفة والنظام على حد سواء، رفضت الاندماج في الأجهزة الأمنية الجديدة، وواجهت محاولات السيطرة الرسمية بمقاومة عنيفة.
من هم الدروز؟ ولماذا لا يسمح باعتناق ديانتهم؟

الدروز طائفة دينية عربية نشأت في القرن الحادي عشر، وتنتمي فكريًا إلى إحدى المدارس المتفرعة عن الإسلام الشيعي، لكن عقيدتهم تطورت بشكل مستقل منذ القرن الحادي عشر.
وتتميّز الطائفة الدرزية بسرّية معتقداتها، حيث لا يمكن لأحد اعتناق الديانة الدرزية، ولا يسمح لأتباعها بتركها أو الدعوة إليها.
ومن أبرز معتقداتهم فكرة التناسخ، التي يرون فيها استمرارًا للروح عبر أجساد مختلفة، وتعد من الركائز الأساسية في العقيدة الدرزية.
وبحسب قادتهم الروحيين، أغلقت الديانة الدرزية بهدف الحفاظ على جوهرها الروحي، وتعزيز وحدة الطائفة في مواجهة التهديدات الخارجية.
أين يعيش الدروز؟ تعرّف إلى أماكن انتشارهم في الشرق الأوسط

يُقدّر عدد الدروز في الشرق الأوسط بنحو مليون شخص، موزعين بين سوريا ولبنان وإسرائيل والأردن.
في سوريا، يتركز أكبر عدد من الدروز بمحافظة السويداء جنوبًا، إضافة إلى ضواحي دمشق مثل جرمانا وصحنايا. ويقدّر عدد الدروز في سوريا بحوالي 700 ألف، ما يجعلها أكبر دولة تضم الطائفة من حيث العدد.
وفي لبنان، يبلغ عدد الدروز حوالي 300 ألف، ويعيشون في جبل الشوف ومناطق من جبل لبنان. ورغم أنهم أقل من 10% من سكان لبنان، فإن تأثيرهم السياسي والاجتماعي يفوق نسبتهم السكانية بكثير.
وفي إسرائيل، يصل عدد الدروز إلى نحو 150 ألفًا، يتركزون في الجليل والجولان السوري المحتل. كما توجد جالية درزية صغيرة في الأردن، تعيش معظمها قرب الحدود الشمالية مع سوريا.
رغم قِلّة عددهم.. لماذا يتمتع الدروز بثقل سياسي في الشرق الأوسط؟

رغم أن تعدادهم لا يتجاوز مليون نسمة في الشرق الأوسط، إلا أن الدروز يتمتعون بثقل سياسي يفوق حجمهم العددي.
في إسرائيل، يشارك المواطنون الدروز في الجيش والمؤسسات الحكومية، ما يمنحهم حضورًا في مراكز صنع القرار.
ومع ذلك، تصاعدت في السنوات الأخيرة أصوات داخل المجتمع الدرزي تطالب بالمساواة الكاملة ورفض السياسات التمييزية، خاصة بعد قانون “الدولة القومية”.
في سوريا، تتمركز التجمعات الدرزية في مواقع جغرافية حساسة جنوب البلاد، قرب الحدود الأردنية والإسرائيلية، مما يمنحهم أهمية أمنية واستراتيجية للنظام السوري، وللقوى الإقليمية المعنية بالمنطقة.
أما في لبنان، فيُنظر إلى الدروز على أنهم “صانعو ملوك” في المشهد السياسي المعقّد، حيث تمكّن قادتهم، وعلى رأسهم وليد جنبلاط، من ترجيح كفة تحالفات كبرى خلال مراحل مفصلية كاختيار رئيس الجمهورية أو تشكيل الحكومات.
تسجيل مفبرك يشعل الصراعات المسلحة: رجل دين درزي يسيء للإسلام

في شهر أبريل الماضي، اندلعت توترات واسعة في سوريا بعد انتشار تسجيل مفبرك نسب زورًا إلى رجل دين درزي يسيء للإسلام.
أثار التسجيل المزيّف موجة عنف طائفي، حيث هاجم متشددون سنّة بلدات درزية قرب دمشق، ما أسفر عن مقتل عشرات المدنيين.
ردّت إسرائيل بضربات جوية قرب القصر الرئاسي في دمشق، مهدّدة النظام السوري إن استهدف الدروز مجددًا.
في السياق ذاته، وصف الزعيم الروحي للدروز، الشيخ حكمت الهجري، ما يحدث بـ”الإبادة الجماعية”، ودعا لتدخل دولي لحمايتهم.
كما تعرّضت السويداء، المعقل التاريخي للطائفة، لهجمات من مسلحين قادمين من درعا، وسط تصاعد دور هيئة تحرير الشام بالجنوب.
وفي يوليو الحالي، تجدّدت الاشتباكات بين دروز وقبائل بدوية، ما دفع القوات الحكومية لشن هجوم عنيف على مناطق درزية.
لكن التوتر بلغ ذروته في 13 يوليو، حين اختُطف تاجر درزي على يد مسلحين من البدو، مما فجّر موجة عنف دموية قُتل فيها أكثر من 350 شخصًا، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
تدخّلت إسرائيل مجددًا، مستهدفة مواقع في السويداء ودمشق، وسط تحذيرات من انفجار أوسع في الجنوب السوري.
تدخل إسرائيلي مباشر في السويداء.. ضربة مفاجئة تُشعل جبهات سوريا من جديد
في تطوّر خطير وغير مسبوق منذ سنوات، أعلنت إسرائيل في 15 يوليو تدخلها العسكري المباشر في سوريا، مستهدفة مواقع تابعة لقوات الأمن والجيش السوري في محافظة السويداء، وذلك بزعم حماية الطائفة الدرزية من “اعتداءات النظام”.
الخطوة الإسرائيلية، التي جاءت تحت عنوان “الدفاع عن الدروز”، تضمّنت إعلان نية إنشاء منطقة منزوعة السلاح قرب الحدود الشمالية مع سوريا، ما أثار تساؤلات دولية حول النوايا الحقيقية لتل أبيب في الجنوب السوري.
لكن التصعيد لم يتوقف عند حدود السويداء. في 16 يوليو، وسّعت إسرائيل عملياتها العسكرية بشكل مفاجئ لتستهدف مقر وزارة الدفاع السورية ومبنى القيادة العامة للجيش وسط العاصمة دمشق، في غارات بثتها القنوات السورية مباشرة على الهواء، وسط حالة من الذعر الشعبي والشلل المؤقت في أحياء عدة.
ويُعدّ هذا التدخل الأكبر منذ ديسمبر 2024، حين شنّت إسرائيل سلسلة غارات طالت مئات المواقع العسكرية في أنحاء متفرقة من سوريا، واستولت خلالها على مناطق منزوعة السلاح في هضبة الجولان كانت خاضعة لإشراف الأمم المتحدة.

الضربات الأخيرة تكشف عن استراتيجية إسرائيلية جديدة، تعتمد على:
- منع النظام السوري الجديد من بناء جيش قوي.
- تعزيز العلاقات مع الأقليات كالدروز لخلق مناطق نفوذ موازية.
- إضعاف السيطرة المركزية لدمشق خاصة في المناطق الحدودية الجنوبية.
ماذا نعرف عن المواطنون الدروز في إسرائيل؟

يخضع المواطنون الدروز في إسرائيل للخدمة العسكرية الإلزامية وعلى النقيض، يرفض دروز الجولان المحتل الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية، ويتمسكون بجنسيتهم السورية رغم الضغوط.
وفي العام الماضي، قُتل 12 طفلًا وشابًا إثر سقوط صاروخ على ملعب في مجدل شمس، وسط تبادل ناري بين إسرائيل و”حزب الله”.
وحملت إسرائيل الحزب اللبناني المسؤولية، لكنه نفى ذلك، مما أثار توترًا إضافيًا داخل المجتمع الدرزي في المنطقة.
لاحقًا، سعى المسؤولون الإسرائيليون إلى تهدئة التوتر، لكنهم قوبلوا بغضب شعبي. فخلال زيارة نتنياهو، رُفعت لافتات تصفه بـ”القاتل”.
أما وزير المالية اليميني بتسلئيل سموتريتش، فقد واجه احتجاجات غاضبة ومحاصرة من السكان أثناء وصوله للجولان.
لا تفوّت قراءة: كيف تفكّر بعقلية الملياردير؟ دروس من الملياردير المصري محمد منصور في عالم المال والأعمال
كيف تعامل نظام الأسد مع الطائفة الدرزية في سوريا؟

سعت الطائفة الدرزية إلى الحفاظ على الحياد طوال سنوات الحرب الأهلية السورية، متجنّبة الانخراط في التمرّد أو الاصطفاف مع النظام علنًا. ومع ذلك، حافظ الدروز على قدر من الاستقلال المحلي، خصوصًا في محافظة السويداء وبعض ضواحي دمشق.
لكن هذا الحياد لم يكن كافيًا لضمان الحماية، فعلى الرغم من ادّعاء النظام بأنه يحمي الأقليات، إلا أن الحماية التي قدمها للدروز كانت محدودة، خاصة خلال موجات العنف الطائفي.

ومع تصاعد الاستياء الشعبي، ازداد التوتر في المناطق الدرزية، لا سيما بعد انتشار ميليشيات مدعومة من إيران قرب حدود السويداء، وهو ما أثار مخاوف من تغيير ديمغرافي أو تصعيد عسكري مفاجئ.
الحرمان الاقتصادي والبطالة وتهميش المنطقة زاد من غضب الأهالي، الذين بدأوا يعبّرون عن غضبهم من النظام بشكل أكثر علانية، ما يهدد بفقدان النظام السيطرة على واحدة من آخر المناطق “الهادئة” نسبيًا في جنوب البلاد.

لا تفوّت قراءة: إجازة الزواج في دبي لمدة 10 أيام: من يحق له الحصول عليها وكيف تُحتسب؟
وقف إطلاق النار في السويداء: اتفاق هشّ لإعادة الهدوء بعد مجزرة يوليو
بعد تصعيد دموي، توصلت الحكومة السورية ووجهاء السويداء لاتفاق وقف إطلاق نار، تمهيدًا لتهدئة التوتر جنوب البلاد.
الاتفاق ينصّ على وقف فوري لكافة العمليات العسكرية، والتزام الطرفين بإنهاء مظاهر التصعيد والهجوم المتبادل.
ومن أبرز ما جاء في الاتفاق:
- تشكيل لجنة مراقبة مشتركة بين الدولة ومشايخ الطائفة، لضمان تنفيذ بنود الاتفاق ميدانيًا.
- إعادة نشر قوات الأمن الداخلي والشرطة، بشرط أن يكون معظم أفرادها من أبناء السويداء أنفسهم.
- منع دخول الميليشيات الخارجية أو تشكيل مجموعات مسلحة جديدة خارج نطاق التنسيق المحلي.
هذه البنود تهدف إلى تعزيز الثقة بين السكان المحليين والدولة، خصوصًا بعد تصاعد الاحتقان الشعبي نتيجة التهميش الأمني.
لكن مراقبين يرون أن الاتفاق ما يزال هشًّا، في ظل استمرار وجود قوى خارجية فاعلة، منها الميليشيات المدعومة من إيران، والتدخل الإسرائيلي الذي أعاد رسم خريطة الصراع في الجنوب السوري خلال الأيام الماضية.
“اتفاق السويداء”: ضباط دروز لقيادة الأمن.. وضمانات ضد النهب والسلاح المنفلت

في إطار إعادة ضبط المشهد الأمني جنوب سوريا، نصّ اتفاق وقف إطلاق النار في السويداء على إسناد المهام القيادية الأمنية لضباط من أبناء الطائفة الدرزية، في خطوة تهدف إلى تعزيز الثقة بين الأهالي ومؤسسات الدولة بعد سنوات من التوتر والقطيعة.
كما شدد الاتفاق على حماية الممتلكات الخاصة، مع تعهد رسمي بعدم المساس بالبيوت أو المحال تحت أي ذريعة، وضمان منع عمليات النهب أو التخريب، سواء في المدينة أو القرى المجاورة.
وتضمّن الاتفاق بندًا خاصًا بملف السلاح الثقيل، يقضي بتنظيمه بالتنسيق بين وزارتي الداخلية والدفاع، وبالشراكة مع القيادات المحلية والوجهاء، بهدف إنهاء حالة السلاح المنفلت خارج مؤسسات الدولة، مع مراعاة الخصوصية الاجتماعية والدينية للمنطقة.
وفي إشارة إلى عودة السويداء للإطار الإداري والأمني للدولة، أكّد الاتفاق على السيادة الكاملة للدولة السورية على أراضي المحافظة، وعودة مؤسساتها للعمل بشكل فعلي، مقابل التزام دمشق بتطبيق القانون بعدالة دون تمييز بين المواطنين.
وتطرّق الاتفاق إلى ملف المصالحة المجتمعية، من خلال تشكيل لجنة تقصّي حقائق تُعنى بتوثيق الانتهاكات التي وقعت خلال الأحداث الأخيرة، وتعويض المتضررين، والكشف عن مصير المعتقلين والمغيّبين.
كما التزمت الدولة بإعادة تشغيل الطريق الحيوي بين دمشق والسويداء، والعمل بشكل عاجل على توفير الخدمات الأساسية مثل الماء، الكهرباء، المحروقات، والرعاية الصحية، كمبادرة لتهدئة الشارع المحلي وتخفيف حدة الاحتقان.
وفي ختام بنوده، اعتُبر الاتفاق خطوة أولى نحو إعادة دمج السويداء في المشروع الوطني السوري الجامع، مع تأكيد على أن أبناء المحافظة سيظلون مكوّنًا أصيلًا في وطن متنوع وآمن لكل أطيافه.