بين مشهد صحفي يبيع كاميرته ليشتري كيس دقيق، وامرأة تنبش التراب لتلملم بقايا طحين، تتجلى مأساة غزة اليوم في أكثر صورها قسوة ووحشية. لم تعد المجاعة في غزة خطرًا يلوح في الأفق، بل واقعًا يتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، ويحوّل كل بيت إلى معركة بقاء.
ما يُبث على الشاشات وما يتداوله الناس على منصات التواصل ليس صرخات فردية عابرة، بل مرايا تعكس مأساة جماعية تفضح حجم الانهيار. تقارير دولية وبيانات رسمية توثق الأرقام المفزعة: 86 شهيدًا قضوا جوعًا، بينهم 76 طفلًا، منذ أن أغلقت إسرائيل بوابة المساعدات في أكتوبر 2023.
وبينما يقرّ التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي بأن قرابة نصف مليون إنسان في غزة مهددون بالجوع الكارثي خلال صيف 2025، تقف الأسئلة الثقيلة بلا إجابة: كم روحًا أخرى ستُزهق؟ كم طفلًا سيموت صامتًا؟ وكم مشهدًا مأساويًا سنضطر لسرده قبل أن يُكتب لمأساة غزة مشهد نهاية أقل قسوة؟
لا تفوّت قراءة: الضربة القاضية لـ”حسم” الإخوانية: كيف أحبطت مصر مخططا إرهابيا كاد أن يشعل الفوضى مجددا؟
المشهد الأول: صحفي يقايض كاميرته بكيس دقيق

من قلب المعاناة، يخرج صوت الصحفي الفلسطيني بشير أبو الشعر ليكشف واحدة من أكثر لحظات الجوع قسوةً في غزة.
في لحظة مؤلمة، عرض أبو الشعر كاميرته الشخصية للمقايضة مقابل كيس دقيق فقط، بحثًا عن طعام يسد رمق أطفاله الجائعين.
كانت الكاميرا من نوع Canon D80، أداة مهنته ومصدر رزقه، لكنها تحولت إلى وسيلة إنقاذ مؤقتة من براثن المجاعة.
وكتب عبر صفحته على “فيسبوك”: “أريد كيس دقيق فقط… لم أعد أحتمل رؤية أطفالي وهم ينامون ببطون خاوية”.
ذلك المنشور لم يكن مجرد طلب، بل صرخة يائسة تمثل وجع أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون تحت الحصار والجوع في غزة.
وعليه، لم تكن كاميرته مجرد آلة تصوير، بل رمزًا للكرامة التي انحنت مؤقتًا أمام الحاجة والحرمان. وتتزايد حكايات الجوع يومًا بعد يوم، لكن قصة أبو الشعر تختصر مأساة مجتمع بأكمله يعيش على حافة الموت البطيء.
لا تفوّت قراءة: من هم الدروز؟ ولماذا يُستهدفون في سوريا؟ دليل مبسّط لفهم قضية الطائفة الدرزية
المشهد الثاني: الشيخ الذي بكى… والمسن الذي أغمي عليه من الجوع
في طابور طويل أمام التكية الخيرية، وقف شيخ مسن ينتظر وجبته، لكنه ما لبث أن انفجر باكيًا من شدة الألم والعجز.
لم تكن دموعه ترفًا عابرًا، بل صرخة قهرٍ مكبوت، أطلقتها وجوه أنهكها الحصار والجوع ومرارة الانتظار الطويل. وبالقرب منه، سقط رجل مسن مغشيًا عليه، بعدما أنهكه الجوع والتعب، قبل أن تصل الوجبة إلى طبقه الصغير الفارغ.
مشهدان موجعان، لا يحتاجان إلى تعليق، اختصرا ببكاء وغيبوبة حال سكان غزة في زمن المجاعة والخذلان. لم تعد الحكايات تروى بالكلمات، بل تُقال بالدموع المنهارة والأجساد التي تنهار في صمت مؤلم.
في غزة، أصبح الانتظار على وجبة ساخنة اختبارًا يوميًّا للتحمل، تدفع ثمنه كرامة الإنسان وصحته.
المشهد الثالث: “بدي آكل”… صرخة امرأة أنهكها الجوع
من قلب غزة المحاصرة، خرج صوت امرأة واهنة يخاطب عالمًا اختار الصمت: “خمس أيام ما أكلت… بدي آكل، جعانة”.
كلماتها لم تكن مجرد شكوى، بل صرخة موجعة اختلط فيها الرجاء بالألم، والجوع بالعجز، واليأس بالعري الكامل من الكرامة. وقالت بصوت مرتجف: “الدوخة بتغلبني، ما بقدر أقوم ولا أمشي”، وهي تحاول الوقوف على قدميها الواهنتين.
بدا جسدها كهيكل عظمي، أنهكته الأيام دون طعام، فيما كان صوتها استغاثة مفتوحة في وجه حصار بلا نهاية. وفي غزة، الجوع لا يطرق الأبواب، بل يقتحمها بعنف، ويحول الأجساد إلى رماد يتحرك طلبًا لكسرة حياة.
لم تكن تلك المرأة وحدها، بل صورة لآلاف النسوة اللواتي يشاركن الألم نفسه، بصمتٍ يقابله العالم بالخذلان.

لا تفوّت قراءة: حزب العمال الكردستاني يحرق سلاحه بعد 40 عاما من النزاع.. ماذا نعرف عن ماضيه وصراعه؟
المشهد الخامس: البحث عن فتات الدقيق وسط التراب
في غزة، لم يعد التراب مجرد أرض تُمشى، بل صار مصدرًا لفتات الحياة، حيث تُنقب النساء والأطفال عن بقايا دقيق بين الحصى.
تتكرر هذه المشاهد يوميًا، دون توقف، وكأن الجوع قد كسر حاجز الكرامة، فحوّل التراب إلى مورد أخير لسد الرمق.
وبعد طول انتظار لأكياس الدقيق، يصل إليهم دقيقٌ ممزوجٌ بالحصى، لكنه يظل الخيار الوحيد أمام بطون خاوية وأمل ذابل.
ويُخلط الطحين بالألم، ويُعجن بالحاجة، ويُخبز تحت سماء لا ترحم، لتخرج منه لقمة لا تحمل طعمًا سوى طعم الصبر. مشهد واحد يلخص كل ما فقدته الإنسانية من معاني الرحمة والتكافل، حين تُجبر الأمهات على نبش التراب بحثًا عن خبز.
ووسط هذا الظلام، تبقى جملة واحدة تصرخ في وجه العالم: “لا تجعلوهم يبحثون عن الكرامة في التراب.”
لا تفوّت قراءة: كم تكلّف بدلة الإطفاء؟ نظرة داخلية على معدات أبطال المطافي بحريق سنترال رمسيس
المشهد السادس: أم تجمع الدقيق من التراب… ثم تكبّه من جديد بسبب الحسرة
في مشهد يختصر وجع المجاعة، شوهدت أم فلسطينية تنحني على الأرض، تجمع دقيقًا سقط في التراب، علّها تصنع منه خبزًا لأطفالها.
تقلب الغبار والحصى بيديها المرتجفتين، تبحث عن فتات دقيق، تسابق الجوع بكرامة منكسرة وأمومة لا تعرف اليأس.
لكن شيئًا في داخلها ينكسر، تغلبها الحسرة، وتغرق عيناها بالدموع، ثم فجأة، تسكب ما جمعته من جديد على الأرض.
تصرخ بحرقة: “مش حرام أولادي يأكلوا من الأرض؟” — سؤال يهزّ الضمائر ويكشف حجم الانكسار.
المشهد الثامن: “أمانة يا عمي صبّلي”… صرخة الطفولة في وجه الجوع
وسط طابور طويل للحصول على الطعام، وقفت طفلة غزيّة تبكي بحرقة، ترفع يدها وتهمس برجاء موجع: “أمانة يا عمي صبّلي”.
كلماتها البسيطة لم تكن مجرد طلب عابر، بل استجداء حياة وسط خراب الحرب ووجع البطون الفارغة.
كان صوتها المرتجف، المحبوس بين الدموع، أقوى من كل الخطابات، وأبلغ من آلاف الصور التي وثّقت مجاعة غزة. وفي تلك اللحظة، لم تكن مجرد طفلة، بل رمزًا لصوت الطفولة المسحوقة تحت ركام الحصار والجوع والخذلان الدولي.
لا تفوّت قراءة: دروس نتعلمها من اعتزال أنس جابر التنس مؤقتا.. حينما تتحول الملاعب الرياضية إلى ساحات ضغط نفسي
المشهد الأخير: من سيكتب النهاية؟
بحثت عن مشهد أخير يوثق المجاعة في غزة، لكنني لم أعد أعرف من أين أبدأ، أو بأي مشهد أنتهي.
هل أكتب عن الطفل الذي مات جوعًا بعدما تغيّرت ملامحه، وتحوّل وجهه إلى مرآة للحرمان القاتل؟ أم أتحدث عن الأم التي تبحث عن الطعام في القمامة، أو عن صرخات الأطفال الذين لا يجدون ما يسكت بطونهم؟
أم أروي قصة الذين خرجوا بحثًا عن كيس دقيق، فعادوا جثثًا ملقاة على عربات الإسعاف؟ أي مشهد أختار؟
اكتشفت أن المأساة لا تُختصر في مشهد، ولا يمكن تغطيتها بمقال، لأن عدد القصص يفوق طاقة الألم نفسه. المشكلة لم تكن في التصوير، بل في الإجابة عن سؤال واحد: من سيكتب سيناريو النهاية لهذه الكارثة؟
المشاهد لا تنتهي، والحكايات تتكرر، أما النهاية… فلا أحد يعرف متى تأتي، أو كم روحًا أخرى ستُزهق قبل وصولها.
