في ذكرى رحيل سيد درويش، يتجدد الحنين إلى صوت “فنان الشعب” وألحانه التي شكّلت وجدان أمة كاملة.
ما بين الأغاني الوطنية الخالدة والموشحات الطربية والألحان الشعبية، ترك سيد درويش إرثًا موسيقيًا لا يزول، تجاوز حدود عصره ليصبح تراثًا خالدًا تتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل.
ورغم مرور أكثر من قرن، ما زالت أغانيه الأيقونية ترددها الحناجر في كل مناسبة، حاملة معها عبق التاريخ وروح الثورة والإبداع.
اليوم، ونحن نستحضر ذكرى وفاته في 15 سبتمبر، نستعيد رحلة تلك الأعمال التي غيّرت شكل الموسيقى العربية، ورسّخت اسم سيد درويش كأحد أعظم روّاد الفن المصري والعربي على الإطلاق.
أقوى مسلسلات رمضان 2026.. أكثر الأعمال الدرامية تشويقا وترقبا من المشاهدين
“الحلوة دي”.. صباحيات العمال وبهجة الفجر
من أبرز ما قدمه سيد درويش في تمجيد قيمة العمل أغنيته الشهيرة “الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية“، كلمات بديع خيري. هذه الطقطوقة البسيطة تحولت إلى أيقونة صباحية يتداولها العمال والصناع.
الأغنية تحكي عن بداية يوم جديد، حيث تنهض “الحلوة” لتخبز العجين مع إشراقة الفجر، فيما يصدح الديك بصوته معلنًا بدء العم:
الحلوة دي قامت تعجن في البدرية
والديك بيدن كوكو كوكو بالفجريّة
يلا بنا على باب الله يا صنايعيّة
يجعل صباحك صباح الخير يا أسطى عطيّة .. أغاني أيقونية لسيد درويش
ولأنها صيغت بالعامية المصرية، فقد انتشرت سريعًا، وأعاد غناءها مطربون كبار مثل فيروز وأميمة خليل ونوران أبو طالب وغيرهم، لتظل شاهدة على عبقرية سيد درويش في تحويل اليومي البسيط إلى فن خالد.
لا تفوّت قراءة: أيقونات الجمال المصري.. 6 نجمات في قائمة أجمل 100 وجه عالميًا لعام 2025
“سالمة يا سلامة”.. من المسرح إلى العالمية
أغنية أخرى لا تقل أيقونية هي “سالمة يا سلامة”، التي لحنها سيد درويش وغناها أيضَا من كلمات بديع خيري، وقدمتها فرقة نجيب الريحاني للمرة الأولى.
الأغنية كُتبت في خضم الأحداث الممهدة لثورة 1919، فجاءت محمّلة بروح وطنية واضحة، تعلي من شأن المصريين، صبرهم ومثابرتهم، وقدرتهم على التكيف مع الظروف الصعبة.
في مطلعها، استعان بديع خيري بعبارة فلكلورية شائعة كانت النساء يرددنها بعد عودتهن من الرحلات:
“سالمة يا سلامة.. رحنا وجينا بالسلامة”، لتتحول مع سيد درويش إلى نشيد وطني واجتماعي يعكس الفخر بالوطن، حيث يقول:
بلا أمريكا بلا أوروبا.. مفيش أحسن من بلدي
دي المركب اللي بتجيب.. أحسن من اللي بتودي.. يا سطى بشندي
ولأنها خرجت من قلب الشعب، فقد تجاوزت حدود مصر. ففي عام 1977 أعادت داليدا إحياء الأغنية بصيغتين وكلمات مختلفة ولكن ظلت نفس الروح، لتحقق نجاحاً عالمياً لم تتوقعه.
وظلت الأغنية تتجدد مع الزمن، حيث أعاد غنائها مطربون عرب وأوروبيون بتوزيعات مختلفة، لكن يبقى أصلها مرتبطًا باسم سيد درويش، الذي زرع فيها عبقريته وحبّه للوطن.
لا تفوّت قراءة: استمتع بأقوى فعاليات الرياض في سبتمبر: تجارب مذهلة لا تفوّتها هذا الشهر لكل الزوار
“زوروني كل سنة مرة”.. شجن لا ينتهي
كلمات الأغنية التي كتبها محمد يونس عام 1917 جاءت من موقف شخصي مؤلم؛ إذ مرض ولازمه الضعف، فبدأت زيارات الأهل والأصدقاء. لكن زيارة أخته –بعد قطيعة بسبب خلاف على الميراث– كانت اللحظة التي فجرت الدموع، وأنهت سنوات الخصام.
من رحم هذه اللحظة الإنسانية البسيطة وُلد مطلع الأغنية البسيط والمربك في صدقه:
“زوروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة”
لحن سيد درويش الكلمات وأداها حامد مرسي أولاً، لتبدأ رحلة طويلة مع مطربين كثر. الأغنية تحولالشيخ ت مع السنين إلى نشيد للشجن الإنساني.
غناها الكبار أم كلثوم، حبيبة مسيكة، كارم محمود، صباح فخري، الشيخ إمام، زكي مراد، لكنها بلغت ذروة خلودها مع فيروز، التي قدمتها بإحساس جعل ملايين العرب يقشعرون.
ويُروى عن الأغنية موقف ففي عام 2000 كان زياد رحباني يعمل على مكساج لأعمال فيروز، وسمع موسيقي ألماني الأغنية من خلف الباب.
وحين دخل ليستمع إليها كاملة، انبهر وسأل: “من صاحب هذا اللحن؟”، فكانت الإجابة: “إنه مصري اسمه سيد درويش.. توفي منذ 1923”. دهشة الموسيقي كانت شهادة جديدة على عبقرية عالمية.
لا تفوّت قراءة: 8 أغانٍ عربية بالذكاء الاصطناعي تستحق الاستماع.. هل نعيش ثورة فنية جديدة أم مجرد موضة عابرة؟
“بلادي بلادي”.. من خطبة مصطفى كامل إلى نشيد وطن
في المقابل، لم يقتصر إبداع سيد درويش على الأغاني العاطفية، بل تجاوزها إلى الأناشيد الوطنية. وأبرزها “بلادي بلادي” التي أصبحت نشيد مصر الرسمي.
القصة تعود إلى خطاب ألقاه الزعيم مصطفى كامل عام 1907 قال فيه:
“بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي”
وكانت هذه الكلمات بمثابة الشرارة للشاعر الشاب محمد يونس القاضي ليحوّلها إلى نص شعري وطني.
عام 1923، ومع عودة سعد زغلول من المنفى، قام سيد درويش بتلحين هذه الكلمات، لتتحول إلى نشيد وطني يلهب مشاعر المصريين.
وبعد أكثر من نصف قرن، في عام 1979، صدر القرار الجمهوري باعتماد “بلادي بلادي” نشيدًا وطنيًا رسمياً لمصر، مع إعادة توزيعه على يد محمد عبد الوهاب بتكليف من الرئيس أنور السادات.
بــلادي بــلادي بـــــلادي لــــــــكِ حُــــــبي وفــــــؤادي
بــلادي بــلادي بـــــلادي لــــــــكِ حُــــــبي وفــــــؤادي
مــصـــر يـــا أم البــــــلاد أنـــت غـــايتـي والــــــمُـــراد
وعـــلـى كــل الـــــعــبـاد كــــم لنيـــــلك مـــن أيــادي
لكن بقي هناك جدل طويل: هل “بلادي بلادي” من كلمات محمد يونس فقط، أم أن سيد درويش كتب ولحن؟ بعض المصادر تؤكد أن سيد درويش مؤلف وملحن النشيد معًا، ومنها مجلة “تياترو المصورة” (1925) التي نشرت النوتة الموسيقية.
وأشارت بوضوح إلى أنه من تأليف وتلحين سيد درويش. وذلك كان على لسان الكاتب الصحفي خيري حسن.
لا تفوّت قراءة: أفضل رسامي حفلات الزفاف في مصر.. من يحول ذكرياتك فرحك إلى لوحة خالدة؟
“أنا هويت وانتهيت”.. شجن الغرام الأول
من كلمات محمد يونس القاض ولحن وغناء سيد درويش. أغنية عاطفية كلاسيكية تعبر عن وجع الحب وخيبة الأمل. ورغم بساطة كلماتها، فقد أسرت أجيالاً.
وأعاد غناءها عمالقة مثل محمد عبد الوهاب، سعاد محمد، وفيروز وحديثُا غنتها فرقة مسار إجباري والفنان محمد محسن بها جسّ سيد درويش الوجه العاطفي الرقيق لفنه، بعيدًا عن صخبه الثوري والاجتماعي.
أنا هويــــته و انتهيــــت
وليه بقا لوم العــــــزول
ليه يحب إنى أقـــول ياريت
الحـــب دا عني يــــزول
ما دمت أنا بهجره ارتضيت
خلي بقا اللى يقول يقول
أنا و حبيبى في الغـرام
مافيش كدا ولا في المنام .. أغاني أيقونية لسيد درويش
لا تفوّت قراءة: أكلات مصرية قد لا يعرفها الجيل الجديد.. تراث على وشك الانقراض من المطبخ الشعبي
“قوم يا مصري“.. نشيد الثورة الخالد
مع اندلاع ثورة 1919، كان الشعب بحاجة إلى أغنية تشعل الحماسة وتجمعهم على كلمة واحدة. كتب بديع خيري كلمات “قوم يا مصري”، ولحنها سيد درويش وغناها في البداية وقدمها ضمن مسرحية “قولوله” لفرقة نجيب الريحاني.
الأغنية سرعان ما تحولت إلى نشيد الثورة، وما زالت حتى اليوم تردد في المناسبات الوطنية “قوم يا مصري مصر دايمُا بتناديك”.
بهذا اللحن البسيط العميق، أصبح سيد درويش الصوت الفني للثورة، وموسيقى الحرية والاستقلال.
لا تفوّت قراءة: متى تتوفر هواتف آيفون 17 في مصر؟ الحجز المسبق ينطلق وموعد التسليم بعد أسبوع فقط
يا ورد على فل وياسمين.. الله عليك يا تمر حنة!
من بين الطقاطيق الشهيرة التي قدمها سيد درويش، تبرز أغنية يا ورد على فل وياسمين، التي كتب كلماتها بديع خيري ولحنها سيد درويش، ويقال إنها عرضت لأول مرة عام 1919 ضمن أحداث مسرحية إش.
الأغنية تعكس الرقة والعذوبة في ألحان سيد درويش، وقد غنتها مطربات كثيرات، من أبرزهن مطربة القطرين فتحية أحمد، وكذلك حياة صبري وحديثُا عايدة الأيوبي.
يا ورد على فل وياسمين، الله عليك يا تمر حنة. قرب هنا، تعال عندنا، خد وردة يا بيه، خدي فلة يا هانم. خد وردة يا بيه، خدي فلة يا هانم، يا إللي عاوج لي طربوشك فوق الجبين على سنجة عشرة.
لا تفوّت قراءة: عمرو دياب كما لم تعرفه من قبل.. أسرار البدايات الفنية للهضبة قبل النجومية
طلعت يا محلا نورها .. يلا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسة!
أما أغنية طلعت يا محلى نورها فقد كتبها بديع خيري ولحنها سيد درويش وغناها أيضَا، كما غنتها المطربة حبيبة مسيكة سنة 1923.
الأغنية تجسد ارتباط المصري بأرضه ونيله، فهي تحتفي بالخصوبة والبركة والفرح بالحياة البسيطة، حيث تقول كلماتها:
“طلعت يا محلى نورها شمس الشموسة.. يلا بنا نملا ونحلب لبن الجاموسة”.
وقد أعاد تقديمها لاحقًا عدد من المطربين، من أبرزهم فيروز، كما أدّتها مؤخرًا المطربة اللبنانية هبة طوجي، لتؤكد على خلود هذا التراث الغنائي الذي لا يشيخ بمرور الزمن.
ربما من لم يسمعها مع أي من المطربين قد سمعها في مسرحية العيال كبرت عندما ارتدوا الجلاليب البيضاء وغنوا الموال!