تعد حرب أكتوبر المجيدة علامة مضيئة في تاريخ العسكرية المصرية العريقة، فقد تبارت فيها جميع التشكيلات والقيادات والشعرب المصري في أن تكون مفتاحًا لنصر مبين حتى وإن لم يكن يشعر وسر من أسرار نجاح هذه الملحمة هي الشفرة النوبية.
حتى أعوام قليلة مضت لم يكن أحد يعلم الشفرة التي استخدمها قادة الجيش المصري في حرب أكتوبر لإبلاغ التعليمات والأوامر للضباط والجنود في مواقع العمليات ولتحديد ساعة الصفر هي هذه الشفرة.
استغلها الجيش المصري لم يسبق أن وثقت في قاموس أو معجم عالمي، فكانت بالفعل سرًا منيعًا ضد الاختراق.
واليوم، ونحن نحتفل نصر السادس من أكتوبر 1973، نفتح صفحة مضيئة للحديث عن أحد الأسرار الكبرى وراء النصر والتي قامت بتأمين الاتصالات المصرية العكسرية.
لا تفوّت قراءة: أكلات مصرية قد لا يعرفها الجيل الجديد.. تراث على وشك الانقراض من المطبخ الشعبي

ملاحم حرب أكتوبر.. حين عجزت الشفرات التقليدية ونجحت الشفرة النوبية!

بدأ الأمر حين لاحظ الصول إدريس أن قادته يبحثون عن طريقة جديدة للشفرات، بعدما تمكنت إسرائيل مرارًا من فك الشفرات العسكرية المصرية أثناء العمليات.
فأجاب بثقة: “حاجة سهلة يا فندم”. زادت دهشة الضباط من رده غير المتوقع تساءلوا: “إزاي سهلة يا أحمد؟”، فأجاب إدريس: “نرطن بالنوبي.. لغة تتقال وملهاش حروف نكتبها بالعربي”.
انتفض الحاضرون وذهبوا إلى قائد الجيش ليبلغوه بالفكرة. اتصل القائد بالرئيس السادات الذي سأل: “مين اللي سمع الكلام غيركم؟”، فأجابوا: “مفيش”.
لكن السادات حذرهم بصرامة قائلاً: “لو الموضوع ده اتسرب هحاكمكم أنتم وهو”. ومن هنا، أدرك الجميع سرية الأمر وخطورته على مصير العمليات.
بعدها خرج قائد اللواء من المكتب وأمر بوضع الكلبشات في يد إدريس. عاش إدريس أصعب ليلة بحياته، ظنًا أن محاكمته باتت وشيكة للغاية.
لكنه سرعان ما أدرك أن ما حدث مجرد إجراء أمني لحماية السر، الذي سيصبح بعد ذلك أحد أعظم أسرار النصر في حرب أكتوبر المجيدة.
وهنا، اقترح إدريس استخدام اللغة النوبية “نرطن بالنوبي” نظرًا لأنها لغة يتحدث بها أبناء النوبة في مصر، لكنها لا تكتب، وهو ما يجعلها عصية على الفهم أو الاختراق.
وأوضح إدريس أن اللغة النوبية تنقسم إلى لهجتين أساسيتين لهجة نوبة الكنوز ولهجة نوبة الفديكا، وكان المتحدثون بهما متوفرين في قوات حرس الحدود.

لا تفوّت قراءة: أفضل رسامي حفلات الزفاف في مصر.. من يحول ذكرياتك فرحك إلى لوحة خالدة؟
اللقاء الحاسم مع الرئيس السادات .. كيف تم تنفيذ فكرة الشفرة النوبية؟
عُرضت الفكرة على الرئيس أنور السادات، الذي وافق فورًا واستدعى إدريس لمقابلته. ويذكر إدريس أنه حين دخل ارتجف بشدة لأنه يراه لأول مرة.
شعر السادات بقلقه فوضع يده على كتفه قائلًا بابتسامة: “فكرتك ممتازة.. لكن كيف ننفذها؟”. كانت كلمات الرئيس حافزًا قويًا لإدريس لتنفيذ فكرته.
أجاب إدريس بأن الأمر يحتاج فقط إلى وجود جنود يتحدثون النوبية، وهؤلاء متوفرون في قوات حرس الحدود. ابتسم السادات مؤكدًا معرفته بالأمر.
استعين بنحو 70 مجندًا نوبيًا من حرس الحدود لإرسال واستقبال الرسائل، علاوة على 344 جنديًا نوبيًا، نصفهم من الفديكا والنصف الآخر من الكنوز.
كما تم تدريب 35 جنديًا في سلاح الإشارة على استخدام أجهزة الإشارة الصغيرة وصيانتها، بينما تولى البقية مهام العمل خلف خطوط العدو.

لا تفوّت قراءة: بدايات النجوم الفنية: هل تعرف أول ظهور لنجومك المفضلين؟
ملحمة تاريخية بالشفرة النوبية خلف خطوط العدو
منذ عام 1971 وحتى اندلاع حرب أكتوبر، عبر الجنود النوبيون القناة باستخدام قوارب مطاطية. كما تمركزوا في آبار وصهاريج المياه لمراقبة العدو.
كانت مهمتهم الرئيسية تحديد أعداد الجنود والدبابات والمركبات الإسرائيلية بدقة، ثم نقل هذه المعلومات المهمة إلى القيادة العسكرية المصرية.
في المقابل، تولى سلاح الإشارة – المعروف الآن باسم إدارة إشارة القوات المسلحة – تأمين الاتصالات وتطوير نظمها بشكل متكامل خلال فترة الحرب.
لا تفوّت قراءة: ّصيحات ألوان طلاء الأظافر خريف 2025.. الكرز الأسود يتصدر الموضة أم التيراكوتا؟
“أوشريا” و”ساع آوى” .. الكلمتان الأشهر في حرب أكتوبر المجيد
يقال إن كلمة “أوشريا” كانت الكلمة الأشهر فى قاموس الشفرات النوبية خلال الحرب ومعناها العربى “اضرب”.
أما “ساع آوى” فتعنى “الساعة الثانية” وبالتالى بتلقى كل الوحدات كلمة “أوشريا” وكلمة “ساع آوى” بدأت ساعة الصفر للملحمة الأهم في تاريخ مصر والعالم العربي.
كشف إدريس أن الشفرة تضمنت أسماء نوبية لكل شيء. على سبيل المثال: العساكر “ميسر” وتعني جدي، والصف ضباط “فج”وتعني معزة.
أما الطائرة فكان اسمها كوارتي بمعنى طائر، والضفادع البشرية منكوكي، بينما المخابرات أوسلمجني أي الثعبان، والمحطة الرئيسية أوندي.
وعند إعطاء إشارة بدء الحرب، كانت الشفرة النوبية تقول: “السجن دي فكوتي” أي الحرب ستبدأ الآن. وبذلك تحركت القوات بدقة وسرية.

لا تفوّت قراءة: 10 مبانٍ تاريخية تعود للحياة.. كيف أعادت شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري إحياء تراث وسط البلد؟
الشفرة النوبية في حرب أكتوبر .. الصمت لأكثر من 40 عامًا حتى انكشف السر!

رغم أهمية الفكرة، شدد السادات على إدريس بضرورة كتمان السر. وظل الأمر في طي الكتمان حتى عام 1994، حين رفع عنه الحظر رسميًا.
لم يعلن الأمر إلا بعد أكثر من 40 عامًا، حين كشفه إدريس بنفسه خلال ندوة تثقيفية بالذكرى الرابعة والأربعين لنصر أكتوبر.
وفي عام 2017، كرّم الرئيس عبد الفتاح السيسي الصول إدريس، ومنحه النجمة العسكرية تقديرًا لما قدمه للوطن من خدمة تاريخية.
دولا مين ودولا مين ؟ دولا عساكر مصريين! من هو أحمد إدريس بطل الشفرة النوبية في حرب أكتوبر؟

بطل الفكرة هو الجندي المصري النوبي أحمد إدريس. حصل على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية الأزهرية عام 1952، بعد أن ترك قريته “توماس وعافية” بمركز إسنا.
لكن بدلاً من أن يكمل تعليمه، كانت ثورة 1952 قد تركت آثارها الاجتماعية والمعنوية على الجميع، بما فيهم الفتى الصغير الطموح أحمد إدريس.
لذلك أصر على الالتحاق بالكيان، الذي برز منه الضباط الأحرار الذين قادوا ثورة يوليو المجيدة. وبالفعل تحقق حلمه عندما تطوع في الجيش المصري.
بعد اجتياز فترة التدريب بنجاح، انضم أحمد إدريس إلى قوات حرس الحدود. ومن هنا بدأت رحلته التي ستمنحه مكانة خالدة في ذاكرة العسكرية المصرية.
لا تفوّت قراءة: كيف تقضي عطلتك في الإمارات؟ 8 أنشطة ترفيهية تستحق التجربة
اللغة النوبية .. من أقدم لغات الأرض لكنها مهددة

اللغة النوبية، التي لعبت دورًا حاسمًا في نصر أكتوبر، تعد لغة قديمة جذورها تمتد إلى آلاف السنين، ويتحدث بها النوبيون في مصر والسودان.
لكنها اليوم مهددة بالاندثار بسبب قلة استخدامها وعدم توثيقها كتابة. لذلك، يعمل متطوعون بجد لحفظ تراث النوبة ولغتها للأجيال القادمة.