الطنطورة: وثائقي إسرائيلي يسجل اعترافات جنود ارتكبوا مذابح النكبة
كمواطن مصري وعربي، تشربت القضية الفلسطينية منذ الطفولة الأولى، لكن أول معرفتي بالمجازر الشنيعة اللي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في قرية الطنطورة، إبان نكبة 1948، كانت من خلال رواية “الطنطورية” لرضوى عاشور.
في حين رسمت عاشور صورة شاعرية أدبية مليئة بالألم عن واحدة من أبشع جرائم الحرب في تاريخ الإنسان الحديث، قدم الوثائقي الإسرائيلي (الطنطورة – Tantura) في سنة 2022، صورة فريدة وشديدة الواقعية عن المذبحة.
الطنطورة هي قرية فلسطينية كانت موجودة على شاطئ قريب من مدينة حيفا، اتمحت بشكل كامل من الخريطة خلال أحداث النكبة، بعد دخول الجيش الإسرائيلي وقتل عدد مش معروف من سكان القرية ودفنهم في مقابر جماعية.
استغرق عمل الفيلم سنتين من البحث والتصوير، وبمساعدة باحث وأستاذ جامعي إسرائيلي هو تيودور كاتس، واللي بيشكل الشخصية المحورية في الفيلم بعد ما أثار الجدل في إسرائيل سنة 1998، من خلال تقديم رسالة الماجستير لجامعة حيفا في بحث عن مجزرة الطنطورة على إيد لواء الإسكندروني الإسرائيلي.
استخدم كاتز لقاءات مع جنود شاركوا في مجزرة القرية الصغيرة، وسجل اعترافاتهم بقتل عشرات من سكان القرية ودفنهم في مقابر جماعية، ولكن تحت ضغط الهجوم الإعلامي الإسرائيلي، وتراجع الجنود عن اعترافاتهم ورفع قضايا على الباحث اتهمته بالتشهير واقتطاع الاعترافات من سياقها، ورفض القضاء الاستماع لتسجيلاته اللى وصلت لـ 135 ساعة، اتراجع كاتس عن موقفه وقدم اعتذار للجنود، وكدب اللي جاء في رسالته بالكامل.
لكن في الوثائقي الجديد، بيرجع كاتس مع المخرج الإسرائيلي ألون شفارتس، وبيعيد نبش ما ذُكر في رسالة الماجستير، من خلال مجموعة من اللقاءات مع الجنود اللي شاركوا باعترافاتهم في رسالته سنة 1998، واللي لسه عايشين، بالإضافة للقطات أرشيفية أول مرة تتعرض للنكبة، وإعادة بناء الطب الشرعي في العصر الحديث لمقبرة جماعية اتمحت من زمان واتحولت لموقف عربيات.
قدم شفارتس وكاتس من خلال الوثائقي تحقيق مخيف وصادم عن أمة بتتمسك بالسيطرة الكاملة على سردياتها القومية، من خلال عرض يتناقض مع السرد القومي الإسرائيلي.
بتقول أليس سبري، صحفية بتكتب في السياسة الخارجية الأمركية، في مقالها المنشور على موقع (إنترسبت -Intercept) الأمريكي، إن الفيلم اللي هيتعرض في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الشهر ده، بيحكي قصة الإسرائيليين مش عايزين يسمعوها، وبيقدم تحقيق مروع وصادم في الذاكرة الفردية، لأن اللي بيعرضه يتعارض مع السرد الذي لا يُمَس لأمة أقنعت نفسها بنقائها، وبيقول مخرج الوثائقي، ألان شفارتس: “قصة مش عارفين يتعاملوا معاها”.
الطنطورة.. ذاكرة مخزية لأمة قامت على الدماء
أي رواية عن قيام دولة إسرائيل بتخضع لرقابة قومية مباشرة من مؤسسات الدولة، وفي سنة 2011 وافق الكنيست الإسرائيلي على قانون النكبة، اللي بينص على إن أي مؤسسة أو جمعية تقوم بفعاليات لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية بدل من يوم الاستقلال الإسرائيلي، يتسحب تمويلها أو تُقلص ميزانيتها بعد موافقة النائب العام ووزير المالية.
موافقة الكنيست على القانون ده ما هي إلا محاولة جديدة تضاف لتاريخ إسرائيل في دفن وتضليل تاريخها الدموي، من خلال قانون بيشكل في صميمه القلق الحاضر دايمًا في عقلية دولة بترفض تعترف بماضيها، وفي الوقت نفسه بتصارع تداعيات الماضي ده في كل لحظة من حاضرها.
أما وثائقي “الطنطورة” فهو محاولة مواطن إسرائيلي فتح دفاتر الماضي المحظور والمسيج بأسوار من القوانين والممنوعات الشائكة، وهو سردية قومية إسرائيلية عن المجتمع والضرر اللي أصاب كل مكوناته كامتداد طبيعي لجريمة تأسيسه من البداية.
سردية قديمة عند العرب وربما العالم كله، مبطلناش نحكيها ونعيدها ونكررها، لكن سردها في فيلم وثائقي إسرائيلي وباعترافات اللي حملوا السلاح وارتكبوا المجازر، بيضيف للسردية بُعد جديد، بُعد مختلف، ومميز، أو زيّ ما بتقول أليس سبري “سماعها من الجناة أنفسهم شيء فريد”.
بين الحقيقة والكذبة.. وثائقي الطنطورة يكشف عن أبطال من وهم
بيتكون الفيلم من لقاءات مع جنود شاركوا في غزو الطنطورة، سواء من رجال أو سيدات، وصلت أعمارهم في تسجيلات الفيلم للتسعين أو أكتر، وبيحكوا اللي حصل في القرية الفلسطينية الصغيرة، من أحداث أول مرة معظمهم يتكلم عنها، ونفاها كتير منهم بشكل كامل قبل كده.
في اللقاءات دي، بيعترف الجنود بقتل أعداد كبيرة من القرويين واغتصاب قُصر ومطاردة آخرين وحرقهم بمدافع الوقود، وفي منتصف الاعترافات بتسمع ضحكات متوترة وجمل قلقة من نوعية: “اللي حصل حصل! هنعمل إيه؟”.
بيسلط شفارتس من خلال الاعترافات دي الضوء على حقيقة تتناقض تمامًا مع الكذبة اللي الأجيال الحالية من الإسرائيليين مصدقاها، وبيقول شفارتس في السياق ده: “بالنسبة للإسرائيليين، الأسطورة التأسيسية بتقول إن الفلسطينيين هربوا وسابوا بيوتهم لوحدهم”، وبيضيف: “إسرائيل بتكدب على نفسها”.
يبدو إن الهدف الأساسي من الفيلم هو مجرد الاعتراف باللي حصل في مجزرة الطنطورة، والشنائع اللي ارتكبها جنود الجيش الإسرائيلي في سكان القرية العزل، وبيقول شفارتس: “سرقنا منهم التاريخ، ومارسنا عليهم التطهير العرقي وطردناهم ورفضنا رجوعهم، ومش بس كده: كمان سرقنا منهم الحقيقية، وفرضنا عليهم الامتناع عن تذكر اللي حصل، وده شيء شنيع”.