لم تكن بالخصومة الهينة، ولا يستطيع أحد أن يصفها بأنها تافهة، فكانت معركة هوية وعادات وتقاليد وفكر بين الطربوش والقبعة والعمامة، عراك على مدار التاريخ، بدأت بالتدريج بين العمامة والطربوش حتى دخلت القبعة على الخط، كلاً منهم كان يحارب على من سوف ينال شرف تسيد رؤوس المصريين.
العمة: تيجان وهيبة على الرؤوس
في كتاب صدر لأهداب حسني المدرس بكلية الآثار الإسلامي بعنوان ” العمامة العثمانية في تركيا ومصر”، أن العمامة كانت تعد ميراثًا عربيًا أصيلا اتخذه العرب منذ العصر الجاهلي، وشبهوه بالتيجان على رؤوس الرجال، لدرجة أنه قيل عنها ” إذا أُهينت لحق الذل بصاحبها، وإذا هضم الرجل وأهين ألقى بعمامته على الأرض وطالب بإنصافه”
،لما فيها من معاني التبجيل والاحترام لها، ولباسًا لخاصة العرب، أصحاب الجاه والنفوذ من حضر وبادية؛ تمييزاً لهم عن بقية الناس، ورمز لعروبتهم.
ولكن بدون سابق إنذار تراجعت مكانتها وخرج الطلاب في المدراس والجامعات يطالبون أن يستبدلوها بالبدلة والطربوش، يرددون ” شيل العمة شيل.. تحت العمة فيل .. شد العمة شد .. تحت العمة قرد … شيل العمة يا أستاذ تحت العمة وابور جاز”
الأمر الذي واجه ردود فعل مختلفة من الشعب منهم من اعتبرها رمز للزي الأزهري كوزير المعارف علي ماهر الذي تعرض لانتقادات لرفضه اعتماد الطربوش حيث هاجمته جريدة كوكب الشرق وقالت “إنه ميت في دباديب العمة”
الطربوش: تيار سياسي له قومية
وبرغم بعض المواجهات لمنع سقوط العمة، دخل الطربوش على الساحة بقلب من حديد وأصبح هو أيضَا له مكانة، لبسه كان ملزمًا على كل رجال الدولة والموظفين وحتى الطلاب في المدارس ومن يتخلف عنه يتم فصله، ذلك الطربوش الذي صرخ فيلسوف الضحك، الممثل الكوميدي نجيب الريحاني، من أجل استرداده في فيلم “غزل البنات” حينما كان ملقى على الأرض، في مشهد يمثل استعادة لكرامته المهدورة.
وقد كان العامل الأساسي فى انتشاره وشيوعه هو الفرمان الذى أصدره السلطان محمود الثاني، وكانت الطرابيش في بادىء الأمر في عهد هذا السلطان تجلب من البلاد الأجنبية وبدأ أولًا بنشرها واستعاضت به عن جميع أغطية الرأس.
وبدلًا من استيراده أصبحت الطرابيش صناعة أساسية يتم تعليمها في البلد، وعندما ظهر السياسي أحمد حسين طالب بطرح مشروع القرش، والذي يحث كل مواطن على التبرع بقرش صاغ واحد ليبني بالحصيلة مصنعًا للطرابيش، الأمر الذي أكسب الطربوش اتجاه سياسيًا ليكسب قيمة قومية لها هيبة في الشارع المصري، في محاولة من الشعب أن يكون رمزاً فى مواجهة قبعة الأوروبيين الغزاة ثالث الأغطية التي ظهرت وأشعلت فتيل الصراع من جديد.
البرنيطة: ضربة قاضية
في عام 1924 سقطت الدولة العثمانية وتولى كمال أتاتورك الحكم للجمهورية التركية، وقام بتوجيه ضربة للطربوش بإصداره ما يسمى قانون القيافة “قانون البرنيطة” والذي يمنع فيه ارتداء الطربوش ويحل ارتداء القبعات والبرانيط، فبعد أن حارب الشعب من أجل الطربوش جاءهم زائر جديد ليهيمن على رؤوسهم.
وردًا على ذلك تأسست في القاهرة الرابطة الشرقية للتعاون وتأكيد الهوية للدول والشعوب الشرقية، وتقدمت الرابطة برئاسة عبد الحميد البكري نقيب الأشراف إلى “جمعية الأطباء” لاستيضاح: “أيهما يعد لباسًا، صحيًا، القبعة أم الطربوش؟”
والصراع اتسع ليشمل الصحف والجرائد بين المفكرين والأدباء ولكن منهم من اتخذ مواقف مختلفة فعلى سبيل المثال اعتبر الرافعي أن “القبعة مظهر من مظاهر التحلل الاجتماعي وأن الذين لبسوها لم يلبسوها إلا من زمن قريب بعد أن تهتكت الأخلاق الشرقية الكريمة” ، أما الكاتب محمود عزمي، فأوضح أن “مصر بلاد مشمسة والطربوش لا يصد الشمس، وأن نسيجه نفسه يمنع الهواء من الدخول إلى رأس الإنسان، مؤكداً أن الطربوش ليس رداءً قوميًا”
وعلى الجانب الآخر من الصراع الأديب نجيب محفوظ صرح بأن الطربوش والقبعة عنده سواء، لأن دعوات ارتداء القبعة كنوع من التقدم ورمز الفرنجة والاندماج في الحضارة الغربية والطربوش رمز للتخلف لم تكن تعنيه مطلقًا فقال” لأنه فى عز حماسى للحضارة الغربية، لم يقل عندى شأن الحضارة العربية الإسلامية التى هى الأصل، فكنت ترى على مكتبى مؤلفات شكسبير جنبًا إلى جنب مع المتنبى”.
هذا الصراع إذا ترك للزمن لن ينتهي، فكان لابد من ضربة لتقضي عليه وتقضي على الثلاثي، فكان قد أرسل أحد القراء رسالة إلى مجلة “المصور” قال فيها بغضب “ألم توجد قضية تشغل المفكرين غير لباس الرأس تنفع المجتمع؟”.
وكأن تلك الرسالة هي الرسالة، فبعد ثورة 1952، تمرّد الجميع على أغطية الرأس فى صورة تنم عن التحرر من “قيود الرجعية”.