أمل دنقل: الشاعر القناوي اللي كتب عن أوزوريس وسيزيف وزرقاء اليمامة
في كتابه “قصيدة الرفض: قراءة في شعر أمل دنقل” بيوضح الدكتور جابر عصفور إن مفهوم أمل في الشعر إنه “يجب أن يكون رافضًا للواقع دائمًا حتى لو كان هذا الواقع جيدًا؛ لأن الشاعر يحلم بواقع أفضل منه”. وفي ذكرى وفاته، حبينا نوضح ازاي المفهوم ده كان الدافع الأول في قصائده والهيكل الأساسي اللي بتكبر وتنضج عليه أفكاره.
شعر أمل كان منارة للرفض الاجتماعي والسياسي وثورة على كل ما هو أمر واقع، حتى لو كان الأمر الواقع هو التاريخ والثقافة، فتجول بشعره في مختلف الثقافات من غير خوف من مفاهيم الاستحواذ الثقافي.
تلاقي أمل، ورغم إن هموم وانكسارات الواقع السياسي والاجتماعي المصري والعربي كانت شغله الشاغل، إلا إن شعره عبر عن رفض الواقع ده من خلال صور هي خليط من ثقافات وتراث العالم كله.
عبر عن قسوة الذل اللي بتعيش فيه المجتمعات العربية تحت سطوة السلطات في قصيدته “كلمات سبارتاكوس الأخيرة“، من خلال قصة عبد قرر في يوم يتمرد ويرفض واقع القمع والتهميش اللي عاش فيه رفاقه وأحبابه تحت سطوة الحكم الروماني، وبتظهر قوة عاطفة أمل في التعبير من خلال واحدة من أحب الصور ليا في القصيدة دي:
“سيزيف لم تعد على أكتافه الصّخرة،
يحملها الذين يولدون في مخادع الرّقيق.
والبحر كالصحراء.. لا يروى العطش.
لأنَّ من يقول “لا” لا يرتوي إلَّا من الدموع!”
وفي نفس القصيدة بتظهر صورة تانية بتعبر عن المساحة اللانهائية اللي كان بيسبح فيها شعر أمل، وهي الصورة اللي تم اقتباسها من إنجيل متى “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض”، فتلاقي أمل بيعيد تشكيل الآية الجميلة دي في قوله:
“اللهُ.. لم يغفرْ خطيئةَ الشيطانِ حين قال “لا”
والودعاءُ الطيبونْ
هم الذين يَرِثونَ الأرضَ في نهايةِ المدى
لأنهم.. لا يُشنَقونْ!”.
بيستخدم أمل قصة العشاء الأخير للسيد المسيح مع تلاميذه في قصيدته “العشاء الأخير” في تعبير عن الهوان والضعف والخيانات اللي عاشها العرب في وقت كتابة القصيدة سنة 1963، وبيخلط قصة المسيح مع أسطورة “إيزيس وأوزوريس” في قوله:
“أنا ”أوزوريس” صافحتُ القمر
كنت ضيفًا ومضيفًا في الوليمة
حين أُجلِستُ لرأس المائدة
وأحاط الحرس الأسود بي
تطلعت إلى وجه أخي..
فتغاضت عينه.. مرتعدة!“
استخدم أمل كل الكتب المقدسة كمصدر للتراث والأسطورة في أشعاره، فـيظهر ما اقتبسه من التوراة في قصيدة “سفر التكوين” سواء من حيث الكلمات أو استخدامه للفظ “الإصحاح” للفصل بين مقاطع القصيدة، فيقول:
“أغنية الكعكة الحجرية
(الإصحاح الأول)
أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحة
أَشهِروا الأَسلِحة.. سَقطَ الموتُ،
وانفرطَ القلبُ كالمسبحَة
والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ“
وبعدين تلاقي أساطير العرب القدامى عنصر أساسي في شعر أمل، وفي قصيدته “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” بيغربل أمل أسطورة العرافة المقدسة “زرقاء اليمامة” اللي قدسها أهل قبيلتها ووثقوا في بعد نظرها فأنتصروا، وخابوا لما كذبوا عرفاتهم وغضوا البصر عن نبواتها، فيقول أمل:
أيتها العرافة المقدَّسةْ ..
جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.
أسأل يا زرقاءْ ..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
إذًا ماكانش فكر أمل سجين واقعنا وثقافاتنا المحلية وإن كان همه الإنساني سجين الواقع ده، فـكان زيّ طير حر يسبح في سماء التراث والأسطورة العالمية فـينسج من كل شبر في فضاء الإنسانية قصيدة وصورة شعرية بتعبر عن الواقع المر اللي بيعيشه أبناء زمانه.
أتولد في محافظة قنا في مصر سنة 1940 واتربى في مجتمع صعيدي تقليدي على إيدين أب تابع لمؤسسة الأزهر ولكنه تحرر من كل قيود الثقافة والواقع واختار يكون طير يمتلك فضاء لانهائي من كنوز المعرفة والثقافة والحكمة الإنسانية اللي في النهاية هي ملك لكل البشرية بلا استثناء.