في قلب مدينة أسوان، حيث تتعانق الشمس مع النيل وتتنفس الجدران عبق التاريخ، بدأ شيءٌ مختلف يلفت أنظار العابرين. على طريق السادات، توقّف المارة لا ليلتقطوا أنفاسهم، بل ليلتقطوا مشهدًا غير مألوف: أربعة مبانٍ سكنية تحوّلت إلى لوحات فنية تنطق بالروح والهوية.
لم يعد الإسمنت الرمادي يختبئ خلف الزمن، بل تسللت الألوان إلى الواجهة، تنبض بملامح أهل الجنوب، بعيونهم وملامحهم، بحكاياتهم الصغيرة، وتفاصيلهم اليومية. ومن خلفهم، طيف فرعوني، وزخارف نوبية، وصدى لنهر خالد، يعكس ماضي أسوان ومستقبلها معًا.
هنا، برزت توقيعات فنانَين تشكيليين من أبناء هذه الأرض: مها جميل وعلي عبدالفتاح، اللذان أعادا للحي روحه وللجدار ذاكرته، ضمن مشروع “أرض من ذهب”، المبادرة التي ترعاها محافظة أسوان لتوثيق التراث البصري والإنساني للمدينة.
لكن الحكاية لم تبدأ من هنا. قبل الأضواء والاهتمام الرسمي، كان الزوجان يحملان فرشاتهما إلى الشوارع، يرسمان بحرّية، يستمدان الإلهام من الناس، ويعيدان رسم أسوان من أعين أهلها.
في هذا الحوار الخاص مع موقع سكوب إمباير، نغوص مع مها وعلي في عمق تجربتهما، نتحدث عن الفن والهوية، عن الألوان كأداة توثيق، وعن مدينة تُروى على الجدران كما لا تُروى في الكتب.
لا تفوّت قراءة: متى يُعلَن الاعتراف بدولة فلسطين؟ فرنسا و14 دولة غربية تحسم موقفها
ما الذي دفعكما للخروج بالفن من القاعات المغلقة إلى شوارع أسوان؟

أخرجنا فننا من إطار مشروعاتنا داخل الكلية والقاعات المغلقة إلى الشوارع والميادين والجدران في المحافظات، وبالأخص مدينة أسوان، لسببين:
السبب الأول هو شعورنا بالمسؤولية تجاه بلدنا، التي تستحق أن تُرى ويحتفى بها بصريًا، كما تحتفي البلدان والمدن العالمية بهويتها.
أما السبب الثاني، فهو إدراكنا لامتلاكنا طاقة كبيرة يمكننا توظيفها في مشروعات فنية متنوعة ومساحات واسعة، ولدينا رؤية وهدف تجاه المجتمع.
لا تفوّت قراءة: أشهر 15 أغنية عربية استحوذت على قلوب المستمعين في يونيو ويوليو 2025
هل تتذكران أول جدارية رسمتماها في أسوان؟ وكيف استقبلها الناس في ذلك الوقت؟

بالطبع نتذكرها، فقد كانت الشرارة الأولى لانطلاقتنا، وكانت في عام 2011، في وقت كان المجتمع في أمسّ الحاجة إلى الإحساس بالإيجابية والتحرر من القيود.
كانت الجدارية تُصور شخصًا يحاول الخروج من الجدار، وقد استقبلها الناس بمحبة وفخر، وكانوا يحرصون على تصويرها كثيرًا، وسمعنا تعليقات مثل أن الجدارية تعبر عن الحرية، وأنها ساعدتهم على كسر القيود والسلبيات.
من الاستفتاءات إلى الستوريز.. أشهر محطات الخلاف بين تامر حسني وعمرو دياب عبر السنوات
كيف كانت أسوان مصدر إلهام لكما في مسيرتكما الفنية؟

سألنا أيضَا الفنانان التشكيليان والزوجان مها جميل وعلي عبدالفتاح عن أسوان بالنسبة لهم، فسردوا: “أسوان بالنسبة إلينا ليست مجرد مدينة، بل هي تاريخ وتراث وروح وجذور، تضم قصصًا وألوانًا وطبيعة وعمارة ووجوه ناس طيبين.
نستلهم من كل تفاصيلها، من الحِرف والتراث والثقافة والمجتمع، ونختار مواضيع تنبع من هذا كله”.
كيف تختاران موضوع كل جدارية؟ وهل هناك مراحل بحث قبل التنفيذ؟
رغبنا أيضَا في إزاحة الفضول ومعرفة كيف يتم اختيار قصة الجدارية هل من عوامل تؤثر على القرار؟ أم شيء داخلي يرشدهم للموضوع؟
فجاءت الإجابة “نختار موضوع كل جدارية بناءً على موقعها الجغرافي ومكانتها التاريخية وسياقها الثقافي والاجتماعي، وكذلك الهدف المرجو من تنفيذ المشروع.
ونقوم ببحث ميداني بصري، نقرأ خلاله، ونلتقي بالمجتمع، ونستكشف القصص. ولا نبدأ بالتنفيذ إلا بعد أن نشعر بأننا نحمل رسالة حقيقية من المكان وللمكان.
وحينها نبدأ بوضع تصميمات تخيلية للمشروع، ونستخرج تصاريح العمل من الجهات الرسمية، ونعمل على توفير كل متطلبات العمل بما يتناسب مع طبيعة المكان”.

لا تفوّت قراءة: الناشئ حسن نجم البنك الأهلي الصاعد.. حلمه ريال مدريد وخطاه تشبه محمد صلاح
هل تهدفان إلى توثيق الذاكرة البصرية لأسوان أم إلى إعادة تشكيلها؟
نهدف بطبيعة الحال إلى توثيق الهوية البصرية بشكل معاصر، فمدينة أسوان تحمل تاريخًا عريقًا، والفن يعد خلقًا للذاكرة بطريقة مرنة وحيوية.
كان أجدادنا المصريون القدماء يوثقون حياتهم اليومية وإنجازاتهم واحتفالاتهم من خلال الرسم والنقش على الجدران، وهذا ما نقوم به نحن اليوم بأسلوب معاصر.
نوثّق أيضًا الشخصيات والملامح والعناصر التراثية والقصص، ولكننا نعيد صياغتها بأسلوب بصري معاصر لكي تصل رسالتنا إلى الأجانب والمجتمع والأجيال الجديدة، فالرسالة والجمال هما دومًا جوهر مشروعنا الفني.

ما التحديات الأكبر التي تواجهكما أثناء الرسم على الجدران المرتفعة؟
أبرز التحديات أثناء الرسم هي حرارة الشمس، وأحيانًا الرياح في الأماكن المرتفعة، والأسطح غير المستوية للجدران.
لكن خبرتنا تمكننا من التعامل مع هذه الأمور بحرفية عالية.
من خلال اختيار نوع السقالات الآمنة، واتباع طرق مدروسة في التجهيز، واستخدام الخامات المناسبة لكل جدار وفق طبيعة المكان، لضمان صمود الجدارية أمام الزمن والعوامل المناخية.
لا تفوّت قراءة: الناشئ حسن نجم البنك الأهلي الصاعد.. حلمه ريال مدريد وخطاه تشبه محمد صلاح
ما نوع الألوان والخامات التي تستخدمانها لضمان بقاء العمل رغم حرارة الجو؟

باستخدام ألوان أكريليك خارجية مقاومة لأشعة الشمس، والتصاق الأتربة، والأمطار، بالإضافة إلى مثبتات ألوان عالية الجودة لضمان بقاء الجدارية لأطول فترة ممكنة.
هل تواجهان صعوبة في تأمين تصاريح أو دعم لوجستي لهذه الأعمال؟
التصاريح والدعم اللوجستي ليسا دائمًا أمرًا يسيرًا، وغالبًا ما تستغرق إجراءات إنجازهما وقتًا طويلًا. وأحيانًا ننتظر فترات طويلة لتنفيذ المشروع، وأحيانًا يتم الإنجاز بسرعة حسب نوع المشروع وحجمه.

لا تفوّت قراءة: خرخرة القطط: كيف تفسرها وترد عليها بلغة الحب؟
كيف يتفاعل أهل أسوان مع هذه الجداريات؟ وهل يتغير سلوك الناس تجاه المكان بعد تزيينه؟
فجاء الرد على السؤال أن أهالي أسوان ذوقًا فنيًا فطريًا نابعًا من الطبيعة المحيطة بهم، ويتفاعلون مع الجداريات بفخر وسعادة.
ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل كثيرون منهم يعبرون عن شعورهم بانتماء أكبر لأماكنهم، ويطلبون تنفيذ المزيد من الجداريات في أحيائهم.
وقد تحولت العديد من الأماكن التي نفذت فيها تلك الجداريات إلى مناطق جذب للناس والزوار، ويحرص سكانها على نظافتها والاهتمام بها، ومنع أي أعمال تخريبية.
وهذا من أجمل ما يمكن أن يحدث، إذ يصبح للفن دور حقيقي في تغيير السلوك وزرع القيم!

لا تفوّت قراءة: لماذا تبدأ أسماء أغلب مناطق الإمارات بـ”أم” و”أبو”؟ تعرف على المعاني والدلالات
هل سبق أن اقترح أحد السكان فكرة لجدارية، أو ساهم في التنفيذ بطريقة ما؟

نعم، كثيرًا ما يقترح السكان أفكارًا لجداريات، ويعرضونها علينا لتبنيها وتنفيذها، أو يروون لنا حكايات نستلهم منها فكرة العمل.
أما التنفيذ، فيكون من خلالنا نحن لضمان جودة العمل، وأحيانًا يكون بمشاركة من المجتمع المدني تحت إشرافنا.
كيف يؤثر كونكما زوجين على أسلوبكما في العمل؟ وهل تظهر خلافات فنية بينكما أحيانًا؟
الإجابة وضحت أن قوة العلاقة بيهم تتيح مساحة كبيرة للحوار، خصوصًا أن ما جمعهم منذ البداية هو الفكر المشترك والموهبة المتقاربة.
كل منهم يرى التفاصيل من زاوية مختلفة، ويقوموا بدمج الرؤيتين للوصول إلى أفضل فكرة ممكنة.

ما الذي يميز علي في نظر مها كفنان، والعكس؟
جاوبت مها “علي يمتلك فكرًا قويًا، ومخزونًا ثقافيًا، ووعيًا كبيرًا، إلى جانب موهبته الفنية” ورد علي “مها تمتلك موهبة من نوع فريد، تجعلها حالة مميزة وفريدة من نوعها”.
لا تفوّت قراءة: التين الشوكي كما لم تتذوقه من قبل.. 6 وصفات لذيذة ومبتكرة لا تُفوّت
هل تتخيّلان أنكما كنتما ستكملان هذا الطريق لولا دعمكما المتبادل؟
لأن طريقنا كان دائمًا مليئًا بالصعوبات والتحديات، فالدعم المتبادل هو ما يمنحنا القدرة على الاستمرار، والبقاء صادقين مع أنفسنا وفنّنا.

ما هي الجدارية التي تحلمان برسمها ولم تأتِ الفرصة بعد؟
نحلم برسم جدارية ضخمة تُجسد مشهد بانورامي لتاريخ أسوان عبر العصور، وتحصل على أرقام قياسية في مجال فن الجداريات على مستوى العالم.
لا تفوّت قراءة: التين الشوكي كما لم تتذوقه من قبل.. 6 وصفات لذيذة ومبتكرة لا تُفوّت
هل تفكران في تدريب جيل جديد من الشباب الأسواني على هذا النوع من الفن؟

نفكر بجدية في تعليم أجيال جديدة، وقد بدأنا بالفعل بخطوات فعلية في هذا الاتجاه قمنا بتنظيم ورش تعليمية لشباب كثيرين.
وشارك معنا العديد من الأشخاص في بعض الأعمال، لأننا نؤمن بأن الفن الذي ورثناه من أجدادنا لا بد من نقله إلى الأجيال القادمة.
لو ستتركان رسالة واحدة على جدار أسوان الأخير، فماذا ستكون؟
رسالتنا على آخر جدار ستكون تعبيرًا عن فننا الذي نرجو أن يدوم أثره إلى الأبد، وأن نقول:
“نحن هذا، فلا تنسونا”.
